بعد السجن في انواكشوط والإقامة الجبريّة في مقطع لحجار، سافرتُ (يوليو 19822) إلى دكار لغرض العلاج. نزلتُ بغرفة في فندق "الاستقلال" (hôtel de l'indépendance)، ومعي دراهم معدودة. طرَقَ أحدٌ الباب، سألتُ: من هناك؟ ردّت امرأة: نحن بيظان من أهل موريتانيا، نودُّ مقابلتكم. فتحتُ الباب فإذا بامرأتين ورجل خمسيني يحمل آلة موسيقيّة (آردين)، وهُمُ الثلاثة في حالة هَلع وذُعْر ورُعْب شديد. دخلوا، وقال الرّجل : نحنُ كما ترى شعّار. هذه فلانة منت فلان، وهذه أختها فلانة، وأنا فلان ولد فلان. وهنا مع "الأمير" فلان ولد الأمراء الفُلانيّين منذ 3 أسابيع تقريباً.
ولكنّ الشرطة السينغالية اعتقلته قبل ساعة من الآن. إدارة الفندق طردتنا واحتَجَزَت متاعَنا حتّى نسدّد الفاتورة. ولهذه الأسباب، فإنّنا نلجأ إليك عسَى أنْ تكونَ لنا من رجال الغيث. قلتُ : مرحَباً بكم تفضّلوا، البيتُ بيتُكم... وأنا نازلٌ في الحال للنّظر في الموضوع مع إدارة الفندق.
نزلت برفقة الرّجل وسألتُ مدير الفندق عن تفاصيل الأمر، فأجاب: هذا الرّجل لصّ وسفيه. أقام مدّة أسبوع في فندق "la croix du sud" وهَرَبَ عليهم تاركاً بعض أغراضه الشخصيّة للتّمْويه.
وقضى أسبوعاً في شقق "le paradis" وهرب دون تسديد افرنكٍّ واحد... واستأجَرَ سيارة من "وكالة ponty" وتحَطّمَت إثر حادث على طريق "pikine" وتركها هناكـ ولم يُشعر الوكالة بشيء. ونزل بالفندق هنا منذ أسبوع تقريبا، ولم يدفع فلساً واحداً حتّى الآن.
وبناءً على هذه الشكاوي تمّ اعتقاله. إنّه الآن في المفوضية المركزيّة على بُعد أمتار من هنا. وإن شئتَ أخَذْتُ لك موعداً مع المفوض حالاً. قلتُ نعم. وفي الطريق سألتُ الرجل عن صحّة ما قال لنا المدير،
فأجاب: أحْ ! المشاكلُ أكثر من ذلك ! لقد أخذ "الأمير" سُلفةً من بُتيگ لقبيلة إكمْليْلنْ، وهم الآن يبحثون عنهُ...استقبلني المفوّض بأدب وأريحيّة، وقال : حيْدَرَه، صاحبكم مجنون ! (c'est un fou)... وبعد مفاوضات طويلة، أعطيْتُهُ بطاقة تعريفي وجزءًا من المبلغ المطلوب مقابل إطلاق سراح "الأمير" حتى آتي بالبقيّة.
خرج "الأمير"، فإذا به يعرفني باسمي وأصلي وفرعي... عُدنا إلى الفندق وكان في استقبالنا بيْتاً من عرّايْ اسْروز مُجانَف متواضع الردّات. سألتُ صاحبنا عن الحل؟ قال: أريدكـ أن تحلّ المشكلة هنا وأسافرُ معكـ وأسدّد لكـ المبلغ فور وصولنا انواكشوط. قلتُ لهُ لماذا لا تكلّم أحد الأهالي هناكـ ليُرسل لنا المبلغ هنا.
أعرضَ عن ذلك، وقال: أقترِحُ عليك أن تتصل بالشيخ سعدنا ولد الشيخ أبي المعالي وسوف يعطيك ما تُريد. رضيتُ بالاقتراح وذهبتُ إلى فيلاّ المرحوم سعدنا وبيْته العامر بالذّكر والقرآن والحديث والفقه وصفوف المريدين. وبعد الترحيب وجميع صُوَر الإحسان والإكرام، حكيتُ عليه مهمّتي وحدّثْتُهُ عن سيرة "الأمير". عندئذ، التفتَ إليّ رحمه اللهُ وقال: آسف جدّا، هذا مجرمٌ ولصّ وسفيه.
لا ينبغي لمثلكـ أن يُخالطَهُ أو يهتمّ به، أحرى أن يُساعدَه. لنْ أعطي افرنْكا واحدا ولن تعطيه أنت أيضا. لو كان مريضاً دفعنا مصاريف علاجه، أو مصابا في ماله آزرناهُ في مصيبته، أو زائراً أو طامعاً أو فقيراً أو مسكيناً أو عابر سبيل أعطيْناهُ؛ أمّا لصّ أحمر هكذا وسارق، فلنْ نعطيه شيئا...أخذتُ مع الشيخ سعدنا عشاءًا فاخرا ورافقني في سيارته إلى الفندق، وعاد إلى بيته.
حكيتُ على "الأمير" ما جرى مع الشيخ، وقلتُ بشيء من الانزعاج واليأس والندم: ماذا عسانا نفعل الآن؟ قال: بسيط ! في الصباح إن شاء الله، أرافقك إلى محطة النقل (garage pompiers)، وسنجد لا محالة بيظان مسافرين إلى موريتانيا، فنأخذ منهم غايتنا من الفرنك ونذهب معهم في نفس السيارة وعندما نصل انواكشوط، نعطيهم نقودهم. والغاية مشتركة. قلتُ نعم، وإذن سأترُكُـ مهمة العلاج التي جئتُ من أجلها إلى مناسبة أخرى.
بات "الأميرُ" ليلته يستمعُ للأغاني ويضحك ويسمُرُ، وفي الصباح ذهب معي إلى محطّة النقل. ومن بيْن عشرات المسافرين الموجودين، عثرتُ على شاب فضيل من أهلينا سُباكْـ. قدّمتُ له نفسي وقلتُ له مهمّتي. قال "والله"، وعاد معنا إلى الفندق. أخذت من عنده ما يكفي الفندقيْن والوكالة ومحل إكمْليْلَنْ. سدّدتُ المبالغ المطلوبة ومررتُ بالشرطة لسحب أوراقي وزادي،،، واتصلتُ هاتفيا بالشيخ سعدنا لأخبره بما صار وأودّعُه. قال لي إنّه في طريقه إليّ.
وبعد دقائق التحق بي في الفندق. قرأ الفاتحة وطلب مني العودة متى أمكنَني ذلك لغرض العلاج. ثمّ أمَرَ أحد مرافقيه بالسفر معنا، وقال: فلانٌ مسافرٌ معك وسيبقى معك في البيت إلى غاية مساء الجمعة. أخذنا السيارة باتجاه انواكشوط: أنا، والرجل والفنانين 3 وتاجر سباكْـ ومرافق الشيخ سعدنا.
وصلنا العاصمة في أول الليل. وما إنْ وصلنا الدّار في لكصر حتى أخذ مني الرّجل (اللص) مفاتيح سيارة البيت، قائلا خذوا الشاي على راحتكم وأنا ذاهب بالفنانين، وأجري اتصالات سريعة وأعود إليكم بالسيارة والمبلغ. بتنا في انتظاره ولم يصل. وانتهى الشاي في الصباح الموالي، ولم يصل.
وانتهى الغداء ولم يصل. تَرَكنَا بلا سيارة ولا خَبَر. واتصلتُ بأحد أقاربه من رموز الإمارة ورجالات الدولة وسألته عنه: قال: ذاك المجرم،
بلغني أنه سافرَ صباح اليوم إلى انواذيبو. ذهبنا إلى المطار، فإذا بسيّارتنا جاثمة. وأكّدت لنا الشرطة سفره إلى انواذيبو.
رجعتُ إلى الدّار في حالة عارمة من الغضب والسخط. وبتّ ليلة كاملة وكلمات الشيخ سعدنا تتردّد في أذني بِمَا فيها من حكمة وتبصّر وتفقّه. وفي الصباح، قرأتُ في وجه الشاب السّباكي الفضيل ملامح التّعب والقلق، بل سمعتُهُ قال على استحياء إنّهُ يحبّذُ الذّهاب بعد صلاة الجمعة. ذهبتُ إلى شرطة المطار بعد صلاة الجمعة، وقالوا بأنّ "الأمير" سافر مباشرة إلى لاس بلماس.
فوّضتُ أمري إلى الله ورجعتُ. وبينما أنا هكذا في حيرة وارتباكـ، أمشي وأجيئ ثم أمشي وأجيئ في محيط البيت خرجَ عليّ مرافق الشيخ سعدنا ومدّ إليّ غلافا غليظا، وقال: أوصاني الشيخ بإعطائك هذه الرّسالة بعد صلاة العصر من يوم الجمعة، ثمّ أعودُ إليه. فتحتُ الغلاف، فوجدتُ فيه 2 مليون من الفرنك، وكلمات موجزة وأدعيّة أحتفظ بها لنفسي... أعطيتُ للشاب السّباكي حقّه وعدتُ بالبقيّة إلى دكار لأزور الولي الصالح الشيخ سعدنا ولد الشيخ أبي المعالي، رحمه الله. اللهم اغفر له وارحمه، وبارك له في خلفه. اللهم اجعلهم له خَلَفا لا خلْفا وانصرهم واصلح شأنهم.
أنشرُ هذه القصّة يوم الجمعة من نصف شعبان 1438 هـ