يرى ابن خلدون أن سياسة الظلم تؤدي حتما إلى خراب العمران وفساد الدولة وزوال الملك.
وكتب الشيخ سيديا الكبير في رسالته إلى الأمير محمد لحبيب: "... اعلم أن حسن التدبير سبب التعمير، وأن سوء التدبير سبب التدمير، وأن السلاطين رعاة على رعاياهم...، وأنك سلطان وملك..، إلى أن يقول: ينصرك البر الصالح لعدلك، والفاجر الطالح لخوفك والطمع فيك.."
يدرك المراقب العادي أن أحداث اركيز ومن قبلها أحداث باسكنو، والطينطان، وكوبني، ما هي إلا تجل من تجليات الغضب، الصامت الذي يسكن نفوس البسطاء من المواطنين الموريتانيين..، الذين يعانون ويلات جشع التجار، وسوء تدبير النخبة المحيطة بالحكام الذين تعاقبوا على الحكم..، ولأن الأحداث المؤسفة التي وقعت، كان يمكن أن تكون أفضل وسيلة يستثمرها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للوصول إلى قلب المواطن الموريتاني البسيط، لو تنقل من مكتبه داخل القصر الرمادي لمواساة مواطنيه والاستماع مباشرة إلى مشاكلهم، دون وسيط، ولا "لحلاح"..، وألزم القطاعات الحكومية، والخدمية في الدولة بتصحيح الاختلالات البنيوية، التي قادت المواطن الموريتاني البسيط إلى استخدام العنف ضد مراكز ترمز للدولة..، وللوقوف في وجه ذلك، بل وصرف انتباه الرئيس عن التفكير فيه، سارعت الجهات المسؤولة عن تردي الأوضاع، والممسكة بزمام الأمور، إلى توجيه بوصلة الأحداث إلى وجهة تكون هي الوحيدة المستفيدة منها، على حساب الرئيس الذي ستقمع، وتعتقل، وتحاكم، المواطنين..، باسمه، ليجد الرئيس نفسه في صراع مع شعبه، إنها لعبة رجال أنظمة..، يتقنون فن التحكم في الحاكم، وتوجيه الأمور نحو التأزيم، الذي يمنع من محاسبتهم على فشلهم..
وإذا أخذنا بما يتم الترويج له من وجود مخربين، ومندسين..، فإن الأمر يدين الممسكين بزمام الأمور أكثر، ويؤكد فشل الأجهزة الإدارية، والأمنية، في كشف مخطط من هذا الحجم يهدد أمن الوطن، والمواطن..، وهو ما يتطلب إقالات، ومساءلات، بالجملة، لكبار وصغار المسؤولين الفاشلين في توفير الأمن، وكشف المخططات الإجرامية، التي تهدد السكينة العامة، وتدمر هيبة الدولة..
يدرك المراقبون أن دور الأجهزة الإدارية، والأمنية اليوم، في ظل عالم التواصل الاجتماعي العابر للقارات..، لم يعد يقتصر على إرسال برقيات لاحقة عن الأحداث..، بل أصبح يتطلب قراءة استشرافية للأحداث المتوقعة، نتيجة التراكمات الثقيلة، والوضع المعيشي الصعب، الذي يعيشه المواطن، بل يتطلب أبعد من ذلك الإحاطة بالأحداث الإقليمية والدولية، والتنبيه على تداعياتها المحتملة على الوطن، والمواطن..، لكن المتتبع للأسف للتقارير الإدارية، والأمنية الوافدة من مدن الداخل، وحتى من العاصمة نواكشوط، يدرك بجلاء للأسف الشديد رداءتها، وضعف محتواها، وتوجيهه من طرف النافذين..، وغياب المهنية عنها، والتي تفرض تشخيصا للواقع، ونقلا دقيقا للوقائع، واستشرافا للمستقبل.
إن نظرة الشعب الموريتاني إلى السلطة في بلاده، نظرة يطبعها العداء..، فهي بالنسبة له تمثل الوريث الشرعي للمستعمر..، وهي النظرة التي جذرتها سياسات الحكومات المتعاقبة، التي عمقت من معاناة المواطن، وامتهنت كرامته، واستباحت ظلمه، وهو ما يبين بجلاء ردات الفعل الغاضبة، والمتبادلة بين السلطة والمواطن، على حد سواء..، بدءا من أحداث 66 من القرن الماضي إلى أحداث اركيز الأخيرة، إن هذه الحقيقة المرة أنتجت تنافرا وتباعدا حقيقيا بين الشعب الموريتاني وأنظمته المتعاقبة، وهو ما يفسر نظرة الحكومات المتعاقبة إلى الشعب بصفته قاصرا يمكن التصرف فيه..، دون مراعاة لأبسط الواجبات التي تترتب عليها اتجاهه..، فأصبحت الدولة ضحية لغياب التفاعل الإيجابي بين السلطة، والشعب، فساد الظلم، وغاب العدل، ولم يوجد العمران، ولا مفهوم الدولة، وسقط الرؤساء الواحد تلو الآخر، رغم محافظة النظام على تماسك هيكله الهش، وذلك بسبب تحكم الطالحين في مفاصل أجهزة الدولة..، مستخدمين مبدأ إما نحن أو الطوفان، وهو ما أكسبهم قدرة فائقة على توظيف رأس النظام مرحليا لمصالحهم، مع استعدادهم الدائم للتضحية به كلما تعرض النظام لهزات عنيفة تعرضه للخطر.
رفع معاوية بن أبي سفيان شعار الثأر لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهما فبرز كزعيم سياسي يشار إليه بالبنان وأسس حكم بني أمية..، وعندما استقر له الأمر في الشام، زار دار عثمان بن عفان في المدينة..، فصاحت في وجهه عائشة بنت عثمان وندبت أباها فقال لها بعد أن صرف رجاله، يا بنت أخي: إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا.
ويقول المثل الهندي: فاقد الجرأة ينبغي أن لا يشتكي من سوء حظه.
لقد مضى من فترة مأمورية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الانتخابية ما يمكنه من تثبيت أركان حكمه، ويجعله قادرا على إظهار غضبه في وجه من يظهر طاعة تحتها حقد..، إن رجالا عاجزين عن خدمة الشعب، ويتفنون في توجيه الميزانيات التي يجب أن تصرف في توفير الخدمات الضرورية للمواطن..، إلى جيوبهم عبر الاستنفار الدائم..، وحظر التجوال، واعتقال المواطنين والتنكيل بهم لا يستحقون كل هذا الصبر..، الذي سيمكنهم من خلق المزيد من فرص التأزيم..، الذي يمثل سلاحهم الوحيد لكسب المعركة..، كما فعلوا مع من سبقوك..، حينها ستكون وحدك المسؤول، وبالفعل أنت المسؤول الأول والأخير منذ تسلمك لمقاليد الحكم.
إن وصولك للسلطة مثل بارقة أمل كبيرة لهذا الوطن..، ويمكن للمتتبع البسيط أن يلاحظ فرحة المهتمين حقا بالوطن، ومشاكله الكبرى، التي صاحبت ذلك النصر الذي حققته، بعد أن وضعت العراقيل الكثيرة في وجهك، وقراءة متأنية للحظة وصولك للسلطة، بالنسبة لهم، تجعل القارئ يطلق عليها الوصف الذي أطلقته "اتهيدينت غسرم" على نصر أعمر ولد المختار ولد الشرقي، على خصومه:
كبظتها اجماع اجماعت الخير ... واعطاتهالك وابكات فيديك
واملكتها مملكت آماجير ... اتشابهلك واشروطها فيك.
لكن بعد مرور كل هذه الفترة من وصولك للسلطة..، هل حقا بقت السلطة في يدك..؟ وهل ملكتها..؟ أم أن الطالحين من رجال الأنظمة المتعاقبة ملكوها بك...؟
إنني أتفهم حقا حجم التحديات التي تواجهك..، لكنني أدرك حقا أنك وصلت إلى سدة الحكم في هذا الوطن الذي تؤكد كل المؤشرات الموضوعية أن فشلك في إدارة شؤونه بشكل مختلف..، سيقوده إلى تداعيات خطيرة، قد تؤدي لا قدر الله إلى دمار وخراب..
لقد أدت أحداث نهاية الثمانينيات..، التي ينظر إليها البعض بصفتها صراعا بين النافذين من مكونين من مكونات الشعب كانوا يتقاسمون الحكم، من أجل السيطرة على هرمه..، إلى استخدام قوة سلطة الدولة والتنكيل ببسطاء المكون الذي فشل النافذون من أبنائه في السيطرة على هرم الحكم..، وإقحام باقي مكونات الشعب من البسطاء في هذا الصراع عبر توظيفهم ولو نظربا، وعاطفيا..، وهو ما خلف جرحا غائرا بين مكونات الشعب، لم يتمكن البلد من تجاوزه حتى اللحظة، كما مثلت السنوات الأخيرة التي عرفت صعودا واضحا وجليا للتيارات الشعبوية على المستوى العالمي، تحد آخر تمثل في ظهور تيارات شعبوية في موريتانيا، ركزت هي الأخرى على تجذير البنى الانقسامية داخل الشعب الموريتاني، وتمت تغذيتها، واحتضانها، ورعايتها من طرف رجال الأنظمة المتعاقبة..، وهو ما خلق شرخا عميقا داخل الشعب الموريتاني يتطلب إرادة صارمة لتفادي الوقوع في الأسوأ..، ومما لا شك فيه أن رجال السياسة لا يتورعون عن تجذير ذلك الانقسام..، رغم معرفتهم المسبقة أن غياب الثقة فيما بينهم يسهل رأبه مهما بلغ..، أما غيابها بين مكونات الشعب الواحد فيمثل بداية لنهايته..
ولكي أكون صريحا فإنني أعتقد أن الذهاب إلى التشاور، أو الحوار مع الطبقة السياسية، في ظل غياب إرادة صارمة لتصحيح الاختلالات البنيوية، الحقيقية، التي تواجه البلد، لا يتجاوز بالنسبة لي خطوة نحو إلهاء هذه الطبقة لفترة..، قبل المواجهة الحتمية معها..، وأكثر من ذلك إنه يمثل نوعا من الهروب نحو الأمام، ومستوى من التخلي عن مواجهات المشاكل الحقيقية، والواقع الجديد الذي أنتجه عجز رجال الأنظمة المتعاقبة المحيطين بك، عن تطبيق برنامج تعهداتي.
عندما وقف ونستون تشرشل في مباني وزارة الدفاع الفرنسية قبل سقوط باريس..، وأخبره الجنرالات الفرنسيون بتحطم الجبهة الأمامية، للجيش الفرنسي..، وسيطرة الآلمان على الريف، وزحفهم نحو باريس..، سألهم عن قوة الاحتياط، وقوات المناورة، وعندما أخبروه بالحقيقة المرة لا وجد لها..، لم يبق أمامه سوى الوقوف أمام النافذة ليشاهد النيران وهي تلتهم في الحديقة الخلفية لوزارة الدفاع الفرنسية، الوثائق والمستندات الخاصة بالجمهورية الفرنسية...، وهو يتساءل في نفسه لماذا أقام الفرنسيون خط ماجينوا..؟
السيد الرئيس حقا أنا أتساءل ومثلي كل من عول عليكم كمنقذ لهذا البلد هل تمتلكون رجال احتياط، يؤمنون بالمصلحة العامة، وبضرورة مساعدتكم في بناء موريتانيا..، ولا يكتفون بقول ما ترغبون فيه فقط..؟ ليضيفوا لبرنامجكم، ويطبقوه، قبل فوات الأوان..؟، لكي نستيطع قول نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني حقيقة لا مجازا..
أم أنكم لا تتوفرون على بديل عن رجال معاوية، وسيدي وعزيز..؟
حينها سأسلكم حقا لماذا قررتم الترشح..؟
ولماذا كتبتم برنامجكم الطموح تعهداتي ليكون شاهدا عليكم..؟
إن الفرصة متاحة أمامكم لتحقيق طموحات وآمال شعبكم فهل تغتنموها..؟
أم أن هامش المناورة عند رجال الأنظمة الرديئة المحيطون بكم أصبح أقوى من إرادتكم..؟
أحمد سالم سيدي عبد الله كاتب صحفي