1 . توطئة
رغم أن سواحل جنوب غرب الصحراء الكبرى قد عرفت رحلات البحارة الفينيقيين منذ حوالي الفين و أربعمائة سنة، و بالأخص رحلة القائد البحري هنون (القرن السابع أو الرابع قبل الميلاد)، مع احتمال أن تكون جزيرة أرسرينا التي تقع بالقرب من جزيرة تيدره الحالية هي سرنة Cerné التي تحدث عنها القائد المذكور في رحلته المكوكية المشهورة، فإن الكشوفات الجغرافية التي تمت على يد الأمير البرتغالي هنري الملاح هي بداية معرفة العالم بسواحل الغرب الإفريقي بشكل أكثر تفصيلا.
منذ احتلال البرتغاليين لمدينة سبتة سنة 1415 في عهد المريينيين و اطلاعهم على تفاصيل التجارة المتوسطية، و بالأخص التوابل القادمة من الهند إلى البندقية عبر قوافل التجارة القادمة من الجزيرة العربية، بدأوا يفكرون في تسيير رحلات عبر الأطلسي في محاولة لاكتشاف طرق بحرية تجنبهم البحر الأبيض المتوسط الذي كان يخضع لهيمنة قوتين بحريتين هما البندقية و الأتراك العثمانيين الصاعدين لتوصلهم إلى الهند و إلى مصادر الذهب و تجارة الرقيق في إفريقيا.
فبعد محاولاته المتكررة للسيطرة على مدينة طنجة و فشله في ذلك، شرع الأمير هنري الملاح بتسيير رحلات بحرية باتجاه الجنوب، حيث اكتشف الملاحون الذين ابتعثهم جزيرة ماديرا ثم بعد ذلك أرخبيل الآسور سنة 1427. في سنة 1434 تجاوز الملاح جيل أيانيش رأس بوجدور جنوبا، بعد ذلك بسبع سنوات، أي في سنة 1441 وصل نونو تريشتاو و آنتاو غونسالفيش الرأس الأبيض (رأس نواذيبو)، ثم بعد ذلك بقليل إلى حوض آرغين الذي أصبح مركزا محصنا للبرتغاليين منذ نهاية النصف الأول من القرن الخامس عشر.
أهم و أقدم مصدر لبداية الحملات البرتغالية على شواطئنا هو كتاب المؤرخ البرتغالي المشهور، غوميش أيانيش دي آزورارا (حوالي 1400 ـ 1474 ) الموسوم بالبرتغالية :
Chronica do descobrimento e conquista de Guiné
الذي تمت ترجمته و تحقيقه إلى العربية، عبر ترجمتيه الإنجليزية و الفرنسية، من طرف كاتب هذه السطور سنة 2015 . يوضح الكتاب المذكور و مؤلفات و مقالات علمية أخرى لاحقة أن سكان سواحلنا قد تعرضوا لأقسى عمليات القتل و السبي و الترحيل على يد البرتغاليين إبان حملاتهم الأولى على سواحلنا من رأس نواذيبو شمالا و حتى مصب نهر صنهاجة (السنغال) جنوبا.
في أوج هذه الكشوفات الجغرافية و الحملات العسكرية ذات الأهداف المتعددة: تجارية، سياسية، دينية، إلخ. و التي كان العقل المدبر لها الأمير هنري (هنريك بالبرتغالية) الملاح، كما أسلفنا، عبأ الحكام البرتغاليون كل طاقات بلدهم المادية و العسكرية و العلمية لتحقيقها. في هذا الإطار و بعد الاتصالات الأولى بين البرتغاليين و سكان سواحل جنوب غرب الصحراء الكبرى، أسند الأمير هنري المذكور مهمة جمع أكبر قدر من المعلومات عن هؤلاء السكان لأحد أعوانه: جوآو فرنانديش João Fernandes .
2 . رحلة جوآو فرنانديش بين البدو و بعض ملاحظاته
تتفق المصادر التاريخية على أن مقام جوآو فرنانديش بين البيظان قد تم سنة 1445 و استمر سبعة أشهر. رغم ذلك تتضارب تلك المصادر بخصوص ملابسات تلك الرحلة، فيرى آزورارا أنه قرر بملء إرادته المكوث وسط السكان الأصليين لجمع ما استطاع من المعلومات لتزويد هنري الملاح بها، مستعينا بخبرته في عادات المسلمين، حيث سبق و أن تم أسره في إحدى المعارك مع المسلمين في المغرب أو تونس. يقول آزورارا في هذا الصدد، و في معرض استعراضه لحصيلة مهمة إحدى الرحلات القادمة من شواطئنا: " هكذا فقد عادوا دون تحقيق أي شيء آخر، عدا رجل مسن من البيظان جاؤوا به و الذي رغب بملء إرادته في الذهاب معهم لمقابلة الأمير، حيث حصل منه على عطايا كثيرة، نظرا لمكانته، ثم أعاده بعد ذلك إلى موطنه. إلا أنني لم أتفاجأ من قدوم هذا الرجل، تماما كما هو الحال بالنسبة للملاُّك الذي ذهب مع أنتاو غونسالفيزو يدعى جوآو فرنانديش، الذي قرر طواعية البقاء في تلك البلاد، فقط للتعرف على البلد و تزويد الأمير بالمعلومات إن وفق في العودة".(الفصل 29 ، الصفحتان 127 ـ 128).
بالمقابل، تشير مصادر أخرى إلى أن مكوث فرنانديش مع البيظان تم وفق اتفاق بموجبه يبقى هذا الأخير مع حي شيخ البيظان الذي ذهب إلى البرتغال لمقابلة هنري الملاح، كضمان لحسن النية المتبادل بين الطرفين.
مهما يكن من أمر، فقد ترك القائد البحري أنتاو غونسالفيز المستكشف جوآو فرنانديش في نقطة ما من إقليم وادي الذهب، من المحتمل أن تكون بالقرب من موقع مدينة الداخلة الحالية، ليلتحق بالبدو المنمين في المناطق المحاذية من اليابسة. طيلة فترة مقامه مع الرحل، تحرك من نقطة وصوله شمالا و حتى رأس تميريست الواقع بالقرب من قرية نوامغار الحالية، و هي المكان الذي تواعد فيه مع السفينة التي أتت به لتعيده منه إلى البرتغال بعد أن ينهي مهمته. يعني ذلك أنه كان يتحرك في نصف دائرة قطرها حوالي خمسمائة كلم تشمل منطقة تيرس و أجزاء من إنشيري، و ربما تنقل في منطقة آدرار حتى وادان.
بخصوص معاملة السكان الأصليين له، ذكر أنها كانت حسنة، رغم ما عاناه من العطش و الجوع في بعض الأحيان. فقد تنقل على الإبل و شاهد الطبيعة و عرف التفاصيل الدقيقة للقوم الذين كان يعيش معهم.
و كعادة البرتغاليين، لم يذكر اسم القبيلة التي أمضى معها وقته و لا المجموعات الأخرى المجاورة لها، مكتفيا بذكر أحد أسياد البدو الذي كان يكن له احتراما خاصا: أَهُودَه مَيَامَمْ.
فيما يتعلق بطرق الاهتداء عند هؤلاء القوم، نقل آزورارا عنه قوله " أنهم لا يعرفون المكان الذي يقيم فيه أي منهم إلا بمعرفة مواقع النجوم في السماء [...] ذلك أنه في تلك البلاد لا يوجد طريق ثابت إلا ذلك الذي يمر بمحاذاة شاطئ البحر". ثم ذكر أن البيظان الذين تنقل معهم في ترحالهم يهتدون فقط بالرياح، كما هو الحال في البحر و عبر حركة بعض الطيور. تطرق أيضا إلى سفره معهم لمسافات طويلة و ما عاناه حتى وصلوا إلى المكان الذي يوجد فيه النبيل أَهُودَه مَيْمامْ الآنف الذكر، فوجده مع أبنائه و آخرين يرافقونه، قدر عددهم بحوالي مائة و خمسين رجلا. لقد أثنى جوآو فرنانديش كثيرا على هذا الرجل الذي استقبله بحفاوة و أمر بتوفير الطعام له على نفقته.
بهذا الخصوص، يقول آزورارا إن جوآو فرنانديش لما عادت به السفن إلى البرتغال "كانت تغذيته جيدة و لونه جد طبيعي".
لقد ذكر هذا المستكشف أن درجات الحرارة في البلاد التي مر بها كانت مرتفعة مع كثرة غبار الرمال، موضحا في نفس الوقت وسائل تنقل السكان و حيواناتهم: "ثم إن غالبية الناس يسيرون راجلين و القليل منهم يركبون الخيل، أما البقية الذين لا يسافرون راجلين فيركبون الجمال، حيث إن منها ما هو أبيض و يستطيع قطع مسافة خمسين فرسخا في اليوم. كما أنه توجد وفرة كبيرة في الإبل، ليس فقط الأبيض منها، بل توجد كل الألوان الأخرى، كما توجد الكثير من قطعان الماشية، رغم قلة المراعي".
لاحظ أيضا أن النساء كريمات المحتد يملكن الكثير من الذهب، حيث يأتون به من بلاد السود. كذلك يوجد في تلك البلاد الكثير من النعام و الظباء و الغزلان و الحجل و الأرانب و طيور السنونو التي تهاجر من البرتغال في الصيف و تذهب لتقضي فصل الشتاء هنا في تلك الرمال بسبب الحرارة. ثم إن بعض الطيور الصغيرة تذهب إلى هناك أيضا، بيد أنه ذكر أن طيور اللقلاق تهاجر إلى أرض الزنوج حيث تمكث خلال فصل الشتاء. (الفصل 77 ، ابتداء من الصحفة 276 من كتاب آزورارا المذكور).
أورد آزورارا أيضا، نقلا عن جوآو فرنانديش و بعض من أُخِذُوا سبايا إلى البرتغال، أن الحروف التي يكتبون بها و اللغة التي يتحدثون بها "ليست هي التي عند بقية المسلمين، بل إنها تختلف كثيرا، بيد أنهم جميعا على ملة محمد و يسمون العرب و أزناػه و البربر. فنمط حياة هؤلاء جميعا واحد، كما ذكرت سابقا، أي في الخيام و مع مواشيهم، حيثما راق لهم ذلك، دون أي سلطة أو قانون، ذلك أن كلا منهم يذهب إلى حيث يشاء و إلى أبعد مسافة يستطيع الوصول إليها..."
نقل آزورارا أيضا عن جوآو فرنانديش أن اهتمام هؤلاء البدو و نشاطهم "يرتكز بالأساس على رعي ماشيتهم، و هي البقر و الضأن و الماعز و الإبل، و هم يرحلون تقريبا كل يوم، فأطول فترة يمكنهم أن يقضوها في مكان واحد هي ثمانية أيام. ثم إن بعض قادتهم يتوفرون على بغال يربون بواسطتها الخيول، مع أنها قليلة".
أما غذاؤهم فيتكون من اللبن، و في بعض الأحيان من قليل من اللحم و بذور الأعشاب البرية التي يجمعونها من المرتفعات، "كذلك يأكلون القمح عند ما يجدونه، بنفس الطريقة التي نأكل بها كونفتي في هذه البلاد."
في هذا الإطار دائما، ذكر أنهم، و لعدة شهور من السنة، "لا يتغذون هم و خيولهم و كلابهم إلا على شرب اللبن. ثم إن الذين يعيشون على الشاطئ لا يأكلون شيئا غير السمك و في أغلب الأحيان، دون خبز أو أي شيء آخر، باستثناء الماء الذي يشربون، وعادة ما يأكلون السمك نيئا و مجففا. أما لباسهم فعبارة عن سترات من الجلود مع أطراف من نفس الثوب، بيد أن أشرافهم يلبسون البرانس؛ كما أن بعض الرجال الأكثر نبلا و الذين يتمتعون بمكانة مرموقة على البقية، يتوفرون على لباس جيد كالمسلمين الآخرين، كما يملكون الخيول و السروج و الرُّكُب الجيدة، إلا أن هؤلاء قليلون جدا."
ترتدي النساء البرانس و هي كالمشامل، فتغطين بها وجوههن فقط دون الاهتمام بستر بقية الجسم. أما زوجات الرجال الأكثر نبلا فيتزين بأقراط من الذهب يضعنها في أنوفهن و آذانهن و بأنواع من الحلي الأخرى. (الفصل 73، ابتداء من الصفحة 273 ).
بعد أن جمع فرنانديش ما باستطاعته جمعه من معلومات، ذهب إلى النقطة التي اتفق مع القبطان الذي أتى به في المرة الأولى أن تكون هي نقطة اللقاء، رأس تيميرست، كما ذكرنا سابقا، ليقفل راجعا إلى البرتغال.
3 ـ خلاصة
يعتبر جوآو فرنانديش أقدم أوروبي يستكشف جنوب غرب الصحراء الكبرى، و قد جمع معلومات غاية في الأهمية عن حياة سكان هذه المنطقة وظفها البرتغاليون عسكريا و تجاريا لإحكام سيطرتهم على سواحلنا ولمدة تقارب القرنين، تم خلالها ما ذكره آزورارا من إفراغ سواحلنا من سكانها عبر سلسلة طويلة من الغارات و القتل و السبي الجماعيين (الفصل 76 ، ص. 283 ).
فرغم ما ذكره ج. فرنانديش من ثناء على البدو الذين استقر معهم مدة مهمته و كيف عاش معهم دون مضايقة، فقد وظف كل المعلومات التي حصل عليها ليلحق بهم من الأذى ما لا يتصور، حتى أنه هو نفسه شارك في غارات و عمليات سبي على سواحلنا راح ضحيتها الكثير من السكان الأبرياء.
أخيرا بفضل كتاب آزورارا ، الذي اشتمل على الكثير من تفاصيل مقام جوآو فرنانديش مع بعض البدو المنحدرين من بلدنا و مشاركته بعد ذلك في غارات ضد سكان سواحلنا، أصبح في حكم المؤكد أن هؤلاء السكان كانوا الأكثر تضررا من الحملات البرتغالية على سواحل غرب إفريقيا.
فمع أنه ينظر إلى تلك الحملات على أنها كشوفات جغرافية حولت طرق التجارة من البحر الأبيض المتوسط و طرق القوافل عبر الصحراء إلى التجارة الأطلسية، محدثة تحولا غير مسبوق عَبَرَ العالمُ تحت تأثيره من فترة القرون الوسطى إلى العصر الحديث، فإن الوقائع التي أوردها مؤلف الكتاب المذكور، و مؤرخون و باحثون آخرون أتوا بعده، تؤكد أنها كانت حربا ضروسا على سكان سواحلنا أدت إلى قتل و خطف و سبي الآلاف منهم، و كانت محصلتها أن تم إفراغ سواحلنا من سكانها.
د. أحمد ولد المصطف