في ظل ما تعيشه البلاد، من تمسك "القبليين" و "الشرائحيين" ببقاء النظام الاجتماعي الإقطاعي التراتبي على ما هو عليه، جاء التقطيع الجهوي منذ قيام الدولة المركزية من فراغ اللا نظام ليسجل قصورا في استنهاض التنمية الجهوية المتوازنة وبتغليب المعيار الكمي على حساب النوعية و الخصوصية الإيجابية التنافسية. و هو الأمر الذي أبقى عن قصد عصى الخلافات الجهوية قائمة يهش بها "الإرتكاسيون" و "الماضويون" على أغنامهم و لهم فيها مآرب أخرى و لتظل تصب بذلك في مصالح الأحكام الغير ديمقراطية المدنية و العسكرية.
و بالطبع لم يغير ما كان من تأثير ما حصل، من انتباهة الشعوب إثر هبوب رياح الوعي الديمقراطي الذي تسرب عنوة إلى كل أرجاء العالم من شقوق جدار برلين المسلح و تفكك القطب السوفييتي و انحسار مد الفكر الشيوعي، لم يغير في العقلية الموريتانية المقدودة على مقاس تحجرها. بل على الرغم مما بدا كأنه استجابة لـ:
· هذا التحول العالمي الكبير المنتصر على مفاهيم الدكتاتورية و الأحادية و توريث الحكم و البقاء مدى الحياة،
· و عصى الغرب الذي ربط منذ ذلك المساعدة والتعاون بالممارسة الديمقراطية و سن التناوبي و ترشيد الحكامة،
إن التجربة الموريتانية التي حصلت ضمن هذا المسار على يد الضابط العسكري و الرئيس المدني معاوية ولد سيدي أحمد لطايع الذي فتح الباب أمام التعددية بالترخيص للأحزاب قبل أن يترشح تحت مظلة أحدها و قد تأسس للغاية التي استبدل لها "بزته العسكرية" بـ"البدلة المدنية"؛ تجربة لم تسلم من منغصات "الديمقراطية" التي أهمها:
- القبلية
- الجهوية
- الشرائحية
- دوائر المحاباة و الاستكانة و الرضوخ للأقوى دون أي اعتراض و طمعا في القرب و الاستفادة.
و تبقى "الجهوية" السلبية أخطر هذه المنغصات حيث أنها لا تملك بعدا تنافسيا في العطاء الإنتاجي و دفع عجلة التنمية من خلال سعي كل جهة إلى إبراز خصوصياتها و استغلال مقدراتها و خبرات و عبقريات و إبداعات سكانها بكل طوائفهم و ألوانهم ـ الحاضنة الحقيقية للمسلكيات البدائية التي تتلخص في:
· استدامة التقسيمات التراتبية التعسفية القابعة في قوارير الحفاظ على إملاءات و توافقات الماضي "السيباتي" مع الإيهام برفضها و محاربتها،
· تزكية التقسيمات الجزئية في جسم القبائل و فضاء التحالفات التقليدية الهشة في ظاهرها و الصلبة في جوهرها و صلابة القواعد التي تقوم عليها من التناوب على القوة و الضعف و الحظوة و الاستفادة بحسب الأحكام و المنعطفات السياسية،
· ربط السياسة بمقتضيات هذه التقسيمات على خلفية ما يقوى و يضعف من التحالفات القبلية و الشرائحية و الطائفية في ظل الطرائقية الدينية كـ:
§ القادرية،
§ و التيجانية تشعبات مشيخاتهما،
§ و زعامات مدارس ما هو وارد من الخارج و قد أصبح ذا حضر لافت و له شيع و أتباع
§ و فقهاء و منظري حركة إخوان المسلمين،
§ و تيارات دعوية كثيرة مولودة انشطاريا من أصل الموجود من الشطط المحلي المعتاد الذي تظله و تحرصه قوانين "السيبة" في صرامتها.
و هي الجهوية السلبية الهدامة التي تعاني منها كل الأحزاب الخائرة في الأغلبية و المعارضة و لا تترك لها أي منفذ إلى الالتحام بـ"مفهوم الدولة" الحديثة و دولة المواطنة و العدالة و الديمقراطية. فكل حزب ينتمي في اعتباراته القصوى إلى جهة (القبلة، الشرك، الساحل) بخلفية و طابع قبائلي لا تخفيان. و داخل أكبر هذه التشكيلات الحزبية لا يعدم سماع الخلافات الحادة حول أسبقية التمثيل فيها و الاستفادة منها حيث يقول البعض إن الريادة لأهل "الشرك" بحجة أنه خزان انتخابي، فيما يطالب بها أهل القبلة بدليل التفوق المعرفي و الأقدمية في ممارسة الحكم. و أما أهل التل و الساحل فبحجة المدنية المتقدمة و الاعتدال الذي حصل مع تجربة الاحتكاك بالمستعمر الفرنسي إلى حدود وصلت حد الانفتاح و التقارب.
و في هذا السياق القديم الجديد يعاني الحزب الحاكم ـ و هو يخطو خطوات متجددة إلى إعادة هيكلته و استحداث أسلوب الممارسة الحزبية ـ من وطأة الخلافات الجهوية الحادة بهذا المنطق السلبي الذي يؤثر أهله المصلحة المادية في سياق الريادة بالعدد و المكان على مصلحة البلد التي يجب أن تنحسر في اختيار الكفاءات و تقليدها مسؤوليات التكليف لا التشريف. و أما الأحزاب الأخرى فمنها من يتبرأ من اختراق هذا المنطق لفكره و منهجه كبراءة الذئب من دم يوسف و منها من يدري أنه بضعفه و قوته غير مطالب بذكر هذه الحقيقة و هو مع ذلك يستغلها في حينها ليظل في الصورة.