لم يعد من المقبول ولا من المعقول لدى المجتمع الدولي والهيئات الدولية بمختلف تشكلاتها واختصاصاتها أن تمارس الدولة الوطنية سياسة القمع والتنكيل والحد من الحريات والاعتداء عليها ، وحتى الدولة نفسها تدرك جيدا أن مدى تطورها وتأكيد مصداقية ديمقراطيتها، رهين بتعاطيها إيجابيا مع قضايا حقوق الإنسان بداخلها ، واحترامها لهذه الأخيرة ، من هذا المنطلق عملت جل مختلف بلدان العالم الثالث على إصدار تشريعات وطنية تسا ير الاتفاقيات الدولية المختلفة المؤطرة لموضوعات حقوق الإنسان ، وتكاد هذه القوانين تكون نسخة طبق الأصل من هذه الاتفاقيات ، كما قامت هذه البلدان كذلك بخلق آليات رقابية وطنية تنفيذا ومسايرة للتوجيهات المنصوص عليها في تلك الاتفاقيات ، بهدف مراقبة منظومة الحقوق وتجسيدها واقعا معاشا، هذا التطور النظري الهائل على مستوى منظومة الحقوق الوطنية وما صاحبه من إن شاء لأليات يفترض أن يكون وجودها بهدف تفعيله، إذا ما نظرنا إليه انطلاقا من الأحداث والانتكا سات التي عرفتها موريتانيا خلال هذا العام، وحاولنا إيجاد تفسير له ، سوف لن نجد له من تفسير، سوى أنه أعد ليطبق خارج الدولة الموريتانية ، وبعبارة أدق أعد للاستهلاك الخارجي داخل أروقة الهيئات المختصة في جنيف وأمريكا وغيرها ليقبر هناك، ويحتفظ بنسخة منه داخل موريتانيا لتعرض أمام كل زائر دولي يزور موريتانيا لهذا الغرض .
أن تجسيد وتطبيق منظومة حقوق الإنسان في أي بلد لا بد له من تحقق معيار موضوعي ، أحسب أننا نفقده ، هذا المعيار حسب وجهة نظري يتمثل في وجود نظام سياسي ديمقراطي ، يعترف بمؤسسات الدولة ويحترم إرادتها ، يعترف بالتعددية ويقبل الاختلاف ، يكافئ المخلصين ويحاسب المفسدين ، يتساوى أمامه وأمام مؤسساته في الحقوق والواجبات القوي والضعيف، والشريف والوضيع ، تستقل في ظله كل سلطة عن الأخرى ، حتى لا يكون هناك استبداد ولا طغيان، فالسلطة كما يقول يونس العياشي في مؤلفه (المحاكمة العادلة بين النظرية والتطبيق ) " لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها امتياز ، وإنما هي مسؤولية يجب الحرص على القيام بها بضمير مهني احترافي ، وبوازع أخلاقي وديني ، وبكل ما تقتضيه روح المواطنة الصادقة"، هذا النظام السياسي الذي هذه صفاته وهذا نهجه لا نجد له صدي بعد الدوس على النصوص القانونية المرتبطة بمنظومة الحقوق سواء تعلق الأمر بحرية التعبير أو بحرية التنقل أوحرية المحافظة على المراسلات الخاصة أو التنقل أوغيره..إلخ .
لا يخفى على أحد أن موريتانيا لا زالت عاجزة عن تقديم استيراتيجية واضحة للرقي بواقع حقوق الإنسان ، ذلك الواقع الذي يعد مشتركا وطنيا ودوليا، يجب أن يحسه المواطنون وأن يعيشوه، انطلاقا من النصوص التي تمت المصادقة عليها ، فعدم الجدية في معالجة مسألة حقوق الإنسان في البلد هي الموضوع الذي يكاد يجمع عليه أغلب المهتمين بهذا المجال ، حيث تبدو الصورة معاكسة للآية الكريمة ، فحقوق الإنسان في بلدنا من ينظر إليها يجد أنها عبارة عن باب ظاهره فيه الرحمة ، قوانين متطورة جاهزة وهيئات يراد لها أن تفعل تلك القوانين ، وباطنه قمع وتنكيل ، وتصفية وتعذيب ، واعتقالات وتسريب وإقصاء وتهميش..إلخ
يبدو أن سياسة الإصلاحات القشورية التي أربكتنا لفترة من الزمن، قد انكشف زيفها ، وثبت أنها مجرد ذر للرماد في العيون ، وأكل للمال العام دون وجه حق ، واستنزاف لثروات البلد ، وتوسيع للهوة بين أبنائه، اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا ..إلخ والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى أو تعد ، هذا التردي لواقع حقوق الإنسان، لم تستطع المنظمات الحقوقية أن تضع حدا له ، لكون هذه المنظمات منهكة ومواجهة ومضايقة بشكل رهيب لا يعلم حجمه إلا هي، وما زاد من حجم المواجهات والمضايقات التي تتعرض لها هذه المنظمات وتؤثر عليها سلبا ،اضطهاد ومضايقة افرادها ، هذا إضافة إلى كونها لا تجد مرجعية تاريخية حافظت على توازنها طوال مسارها في هذا البلد ، إذا استثنينا القلة القليلة جدا ، فجل المرجعيات التي كافحت عن بعض قضايا حقوق الإنسان في موريتانيا ــ رغم احترامنا للأدوار التي لعبت ــ هي الآن في أحضان الجلاد ، عكس بعض البلدان الأخرى التي تجد فيها المنظمات الحقوقية المناهضة مرجعيات حقوقية حافظت على توازنها طوال فترة نضالها وذهبت إلى أبعد من ذلك بتقديم أرواحها ، أو قضائها فترة طويلة خلف القضبان، ومن الأمثلة على ذلك المرحوم بإذن الله المناضل الحقوقي المسلم مالكوم إيكس المعروف بالحاج مالك الشباز والحقوقيين مارتن لوثركينغ ونيلسون مانديلا وغيرهم .
تجدر الملاحظة أنه ورغم المضايقات التي تتعرض لها المنظمات الحقوقية في بلدنا في سبيل المطالبة بتطبيق القوانين وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحرياته ، إلا أن جهودها وجهود أفرادها على اختلافهم واختلاف وحجم الأدوار التي يقوم بها كل منهم ستبقى محفوظة في سجلات التاريخ وسينالون عليها الجزاء المبين بقدر نياتهم وأهدافهم، أما واقع حقوق الإنسان فالمؤشرات تقضي بأنه لا جديد على الإطلاق لأن النصوص ستبقى طريحة الفراش وسيبقى عدم تطبيقها هو عنوان حقوق الإنسان ما دام المعيار الموضوعي الذي لا يمكن لهذه الأخيرة أن تعيش بدونه مفقودا.
د.محمد ولد الشيخ