تنفس الصبح وأسفر عن يوم جديد من عمر المغامرة، بعد أن أزاح صادق الفجر خيط كاذبه، في بلاد يباري ليلها نهارها خوفا وتوجسا.. بلاد ارتوت فيها التلال والسهول والوديان بالدماء التي أريقت، طلبا للتحرير أحيانا، أو باسم الدفاع عن الدين، أو سعيا وراء ثأر أو مظملة، أو شحنة مخدرات أحيانا أخرى.. فعلى هذه الرمال التي ننام عليها نوم الدلافين، سقط الرجال مضرجين بدمائهم، وتناحرت العصابات، وحملت القبائل بعضها السلاح في وجوه بعض.. فيحدثونك في كل بقعة عن قتيل سقط غدرا أو مواجهة، وعن قبيل صال على قبيل، وفصيل كمن لفصيل، فالموتورون والأيامى واليتامى فيها، يتنفسون هواء صحراء عبق بدماء الأحبة، ومع ذلك يتطلعون بأمل لا ينقضي إلى إنهاء عصر المأساة.
أفقنا من غفوة دامت ساعة أو تزيد قليلا، وصلينا الصبح.. ثم عدنا إلى مضاجعنا ونام بعضنا أو تناوم، وانطلق اثنان من رفقتنا يجمعان بعض الحطب لإعداد الشاي.. كان حديثهما في ذلك الوقت وذلك الجو الهادئ، يكسر جدار الصمت، فنرفع رؤوسنا بين الفينة والفينة خوفا ووجلا، فنحن في موقع وموقف نخشى فيهما كل قادم مهما كان، والنائمون يتوسدون أسلحتهم يحسبون كل صيحة عليهم، وكل صفير للرياح أو حفيف للأغصان صولة عدو أو كمين مناجز.
أخرج "كبير القوم" من خلف مقعد السيارة الأمامي كيسا من القماش، به "مواعين" الشاي، وبعض قنينات الماء التي ملأت بعد إفراغها، بمسحوق الحليب والسكر والشاي الأخضر، وبعض البسكويت، ومعاها بعض من أواني وأكواب وأباريق، وبدأت جلسة شاي بربوة ذات حصا وجنادل، برزت وسط أشجار ونباتات أخذت من الصحراء جفوتها، وأقسمت غير حانثة ولا آثمة، للشمس والعواصف، أن لا تكون سترا عنهما، تخللت تلك الجلسة رماية بالسلاح على أهداف ثابتة جامدة، وعملية تفجير عن بعد لعبوة صغير، وأحاديث من هنا وهناك.
كان سيدي محمد ولد بمبا ينشد بعضا من شعر المتنبي، ونتجاذب أطراف الحديث بشأن الصور الشعرية لصناجة العرب، وقوله
وقفتَ وما في الموت شك لواقف .. كأنك في جفن الردى وهو نائم.
صحيح، إن الوقوف في جفن الردى أمر مثير يستحق التوقف عنده، هكذا علمتنا تلك الرحلة..
ثم عرجنا على الشنفرى وصعلكته، وأين مبيتنا تلك الليلة من قوله:
تنام إذا ما نام يقظى عيونها حثاثا إلى مكروهه تتغلغل
اقترب منا أحد مرافقينا وهو موريتاني، ليشاركنا الحديث، وكان على قدر من الفهم والذائقة الأدبية، لكننا توغلنا بعيدا في الشعر، أو على الأصح توغل بنا سيدي محمد بعيدا بعيدا.. إلى أن أوصلنا إلى شعر عمر بن أبي ربيعة وبعض غزلياته الماجنة، ولكم أن تتصوروا رفاقنا وهم يستمعون لتلك الصور الصريحة الفاضحة في شعر بن أبي ربيعة.. وصاحبنا يتغنى بقصيدة الفتى المخزومي..
.. أراد سيدي محمد ـ عن قصد ـ أن يسبر الغور ،ويعرف أين تصل حدود القوم متخذا من الأدب والشعر دثارا، بعد أن خاض معهم نقاشات فكرية صريحة بلا دثار، انتهت بنصيحة أحد "الحكماء" أن رصاصة طائشة من شاب متهور غاضب قد تكون ردا غير مناسب على بعض الأفكار.
ولتخفيف التوتر المتوقع بسبب بعض الأبيات الموغلة في المجون لعمر ابن أبي ربيعة، وغزلياته التي لم يسلم منها حرم البيت الحرام.
قف بالطواف ترى الغزال المحرما... حج الحجيج وعاد يقصد زمزما.
علقت قائلا، "لمثل هذا الشعر كان عبد الله ابن عباس يستمع، وهو يجالس عمر بن أبي ربيعة في المسجد، وأقد أخذ عليه بعض "المتشددين" ذلك".
تبسم صاحبنا وقال.. استغفر الله العظيم.. رحم الله محمدن ولد سيدي إبراهيم فقد كان يكره "التصريح".
ثم أخرج هاتف الثريا ليتصل.. كان عبارة عن قطعة سوداء خالط لونها شحوب لفرط تعاقب الملوان.. وسوء الغمد والجنان..
قلت ممازحا، شتانا ما بين منظر الثريا التي معك، وما يحيكه عمر بن أبي ربيعة في شعره من أوصاف للثريا التي تغزل بها.
رد قائلا ، وشتان ما بين العاشقَيْن والعَشِيقَين، ثم انشد أبيات غزل صريح غير عذري، لكنه غزل قيل في غير ليلى والرباب والثريا ..
حنت يداي إلى مساس يداها ... وشكا الفؤاد إلي من فرقاها
روسيّة الشفتين لا ترضى سوى ... تقبيل كـل منافق يلقاها
ذهبية الأسنان حـين تبسمت ... سقط الرجال لخوفهم إياها
إن أغمز الأرداف تبدى تغنجا ... لحيائــها، لله در حياها
إنه تغزل صريح، لكن ببندقية رشاش الكلاش نيكوف.
علقت قائلا "ابعيد ذا من ذا"
اتصل رفيقنا على "أبي ذر الصحرواي" لمعرفة آخر المستجدات، ولم يكن ذلك اتصاله الأول عليه منذ انطلاق رحلتنا، فقد كان يكمله يوميا مثنى وثلاث ورباع، لكن جديدا تغير عند هذه المكالمة، كما هو حال شؤون تلك الصحراء التي تتحرك الأحداث فيها حركة المقاتلين، وتتقلب الأهواء والولاءات فيها ميل الرياح بذؤابة الأغصان.
كان المجيب على الطرف الآخر هذه المرة غير "أبي ذر" .
ـ السلام عليكم، من معي.. أين أبو ذر؟
ـ ماذا؟
ـ كيف؟
ـ تقبله الله
توتر الجو وشخصت الأبصار .... إنه شبح الموت يطل برأسه من جديد، ونحن غارقون في شعر ابن أبي ربيعة وغزله، ومقارنة الثريا بالثريا..
وفي حركة لا إرادية وضع "كبير القوم" يده على سلاحه وقربه نجيا، وأرمق بنظرات ثاقبة زميله المتحدث وكأنه يعد حركات شفتيه، وهو يتحدث في الهاتف..
كانت نظراته الحادة، وهو الذي تمرس بالآفات حتى تركها ، تقول أمات الموت أم ذعر الذعر، تنضح بعشرات الأسئلة، وتشي باحتمال حصول أمر جلل، رغم كونه يستمع إلى حديث ألفه كثيرا عن الموت والموتى.
تأبى حكايات الموت إلا أن تسرق منا لحظات الشعر والمرح..
بقلم: محمد محمود ولد أبو المعالي
ـ يتواصل ـ