عندما لحن الموسيقار الفرنسي (من أصل روسي) توليا نيكيبروتزكي النشيد الوطني الموريتاني، مستأنسا بقدرات الفنان سيداتي ولد آبه الذي أسمعه معزوفات من موسيقى البيظان، لم ينجزه للغناء،وإنما ليكون عزفا صامتا لا كلمات له مثل الأناشيد الوطنية لبعض الدول كنشيد إسبانيا ("مسيرة الملك" المحوّرة من "مسيرة القرناطيين")،
وهوواحد من أقدم أناشيد العالم (حوالي 1770)، ونشيد كوسوفو الخالي من الكلمات احتراما للتعددية العرقية في البلد، ونشيد الاتحاد الأوربي المستقى من بعض سيمفونيات بيتهوفن والذي ظل صامتا بسبب الإشكال اللغوي التعددي الأوربي. وبالنظر إلى تنافر عزف النشيد الوطني الموريتاني مع ما اتــُّــفق على أنه كلماته (كن للإله ناصرا)، وصعوبة أداء الكلمات بالتزامن مع العزف الرسمي، تتأكد فرضية التلحين المراد أصلا لنشيد وطني بلا كلمات. وربما تعود أسباب ذلك إلى أن النخبة الثقافية والإدارية المؤسِّـسة طلبت من الموسيقار توليا نيكيبروتزكي تلحين نشيد وطني لموريتانيا دون أن تهيئ له كلمات؛ فاستمع لمقطوعات شعبية، بمساعدة الفنان سيداتي ولد آبه، ومزج بعضا من نوتاتها مع لحن عسكري بنوتات غربية؛ ليولد النشيد صامتا (من حيث الكلمات) ويـُـرغــَــم أو يطوّع، بعد ذلك، على حمل كلمات "كن للإله" دون أن تكون بالضرورة صالحة أو مهيّـأة له، مما دفع الأطفال، في تهكــّــم شهير، إلى مجاراة كبير الجوق العسكري، المبدع سوغوفارا، بأنشودتهم المضحكة: "ولد داداه كاسْ اندَرْ/جابْ ازكيبـَـه من لبْـعَـرْ" بدل: "كن للإله ناصرا/وأنكر المناكرا". ولعل صعوبة المواءمة بين عزف النشيد الوطني، من جهة، وكلماته من جهة أخرى، يعود في بعض تجلياته إلى تنافر الخــَــلطة الشعبية والغربية، كما يعود إلى أن الآلات الموسيقية المستخدمة لدى الفرق الموسيقية العسكرية مصنوعة أصلا لأداء أنماط موسيقية غربية بحتة، وبالتالي فهي عاجزة عن التعبير عن جل النوتات الخاصة بالثقافات الأخرى، إضافة إلى طابعه الغربي المسيطر؛ فالتوابل الموسيقية المستلهمة فيه من الموسيقى الشعبية الموريتانية قليلة جدا، لأن الملحـّـن فرنسي، ذو خلفية ثقافية غربية، والأدوات المستخدمة (من ناي ودف)، وحتى الأسلوب لا يستجيب للذائقة المحلية بقدرما يعكس صورة جنود نابليون وهم يتحركون في صفوف مهيبة منتظمة بدقة وفق المعزوفة العسكرية. وليس لنا أن نلوم الموسيقار توليا نيكيبروتزكي لأن جميع الأناشيد الوطنية، في العالم بأسره، سارت على النسق الغربي الذي ابتدع هذا التقليد المدعو "النشيد الوطني" منذ أول نشيد عزفه وغناه الهولنديون حوالي 1568. ولم تسلم من الطابع الغربي للأناشيد الوطنية غير شعوب قليلة من بينها الصين واليابان وكوستاريكا وإيران وأثيوبيا وسريلانكا. فأناشيد هذه الشعوب مبنية، من حيث العزف، على أساس ثوابت ومرجعيات حضارية وثقافية وتاريخية خاصة بها. فمن أين لنشيد بلاد بدوية سائبة، لا تملك تراكمات في مفهوم الدولة والنظام، أن يكون لها نشيد مستوحى تماما من خصوصياتها؟.. وهنا كان الخطأ الشائع الذي يعطي "مجانا" جهد توليا نيكيبروتزكي لغيره ممن لم يدرسوا التلاحين العسكرية المعقدة في معاهد مختصة. وهو الخطأ الذي روجت له إذاعة موريتانيا وحتى بعض الدارسين، ناهيك عن العامة. لقد بذل الملحن توليا نيكيبروتزكي جهدا كبيرا في سبيل مواءمة فواصل موسيقية تقليدية بطيئة مع ميكانيزمات الجوق العسكري السريع، فتـَـحَصـّـل في النهاية على النشيد الأكثر تنافرا، في ما بينه، والأكثر تنافرا في ما بينه وكلماته التي تبدو، عند أدائها، جسما آخر "لا علاقة له بالموضوع". لكن توليا نيكيبروتزكي - على غرار المختار ولد داداه- وضع اللبنة الأساسية متأثرا بالسياق الاستعماري العام المنحني تبجيلا لنشيد المرسيلية الفرنسي المكتوب 1792. وكان على النخبة الموريتانية، بعد أن بلغت جهود توليا نيكيبروتزكي مبلغها، أن ترمم البناء وتصقله، بل تنهيه بإعادة النظر في التلحين والكلمات باعتبار أن النشيد الوطني، أيا كان، تعبير عن الهوية والمميزات والخصوصيات الثقافية. فالتلحين الموريتاني يمكن أن يستلهم من الأنماط الغربية الأم (لأنها صاحبة البدعة المستحسنة)، واحتراما لجهود توليا نيكيبروتزكي، مع إضافة القدر الكافي (المقنع) من الرصيد الموسيقي المحلي (انطلاقا من التعددية الثقافية والعرقية). أما الكلمات، ورغم مضمونها الذي لا جدال في أهميته لنا كمسلمين، فإن التعامل معها يمكن أن يتم من نافذتين: إما تركها كما هي ومواءمة العزف معها، أو تغييرها لتـُـوائم العزف بعد تصحيحه. وفي حالة تغييرها يكون من اللازم، أو من المهم تعزيزا لعرى الوحدة الوطنية، أن تصاغ مترجمة إلى خمس نسخ (عربية، فرنسية، بولارية، ولفية، سونينكية)، ويكون من حق المواطن أن يغنيها بأية لغة شاء، وهو النهج المتبع في السويد حيث تؤدي الفرق الموسيقية والتلاميذ نشيدهم الوطني بما يختارون من اللغات الوطنية الأربع (الرومانشية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية)، أو أن يـُـكتب النشيد الوطني باللغة العربية، لكن بطريقة تجعل في كل مفصل منه كلمات وتعابير لهجية من مختلف اللغات الوطنية. ويكون لزاما على التلاميذ تأديته كما هو. وهذا الأسلوب متبع في جنوب إفريقيا حيث تـُـستخدم داخل النشيد الوطني الانكليزي خمسة مقاطع من خمس لهجات محلية. ومهما يكن فإن تغييب الموسيقار الفرنسي، توليا نيكيبروتزكي، من المشهد العام للاستقلال في موريتانيا، سواء في الذكريات العادية أو في الخمسينية الماضية، كان عملا غير منصف تجاه التاريخ. كما أن التحسس من مجرد ذكره، بوصفه مؤلف وملحن أول نشيد وطني ما يزال يعزف حتى اليوم، أبعد ما يكون عن مبدأ العرفان بـ"الجميل"، مع ما يتطلبه ذلك "الجميل" من أظافر طبعا. إننا، بمناسبة عيد الاستقلال لسنة 2012 وتصليحا للعطب التاريخي، نقدم تعريفا ملخصا عن هذا المـُـغـَــيـَّـب الكبير. ولد توليا نيكيبروتزكي (Tolia Nikiprowetzky) يوم 25 سبتمبر 1916 بمدينة فيودوزيا بإقليم اكريمي في أوكرانيا التابعة حينها للاتحاد السوفياتي. وصل أهله إلى مرسيليا بفرنسا سنة 1923 هربا من الثورة البلشفية.. بدأ توليا نيكيبروتزكي دراساته الموسيقية في نفس المدينة، وفي سنة 1937 اختار الانتقال إلى باريس حيث قطن، فعمل هناك مع بعض كبار أساتذة الموسيقى مثل الويس لالوي وسيمون ابلي كوساد كما عمل في هيئة التعاون الإذاعي الفرنسي. ومن سنة 1950 إلى غاية 1955 انتقل إلى المملكة المغربية فعمل في مصلحة الموسيقى بإذاعة المغرب.. عاد إلى فرنسا أواخر 1955 وبدأ يهتم بالموسيقى التقليدية الإفريقية. وكان وراء إنشاء أهم مكتبة فرنسية لجمع وحفظ أشرطة الأنماط الموسيقية غير الأوربية. وقد زار الكثير من الدول الإفريقية للقيام بدراسات حول الموسيقى التقليدية. وعمل على جمع ونشر وتحليل وقراءة الموسيقى الإفريقية التقليدية في عدة مؤتمرات دولية. ساعد موريتانيا واتشاد في تلحين نشيديهما الوطنيين بعد الاطلاع على خصوصيات فنهما التقليدي.. أصبح، في سبعينات القرن الماضي، رئيس مصلحة الموسيقى في إذاعة فرنسا.. ألف توليا نيكيبروتزكي 4 من أشهر تلاحين الأوبيرا (من بينها "أرملة البطل" و"العيد والقناع").. قال عنه أحد النقاد ان "التاريخ سيعترف له ذات يوم بأنه واحد من أكبر المنسيين من جيله". ويـُـعتبر جل القائمين على تسيير الجوانب الموسيقية في الإذاعات الإفريقية الناطقة بالفرنسية، من الجيل الأول، طلابا له.. ومعروف أن توليا نيكيبروتزكي نشر سنة 1967 كتاب: "الموسيقى والحياة". توفي توليا نيكيبروتزكي يوم 5 مايو 1997 في باريس دون أن يعرف أي تكريم له في موريتانيا التي منحها نشيدا وطنيا من أجمل الأناشيد، وإن كان أيضا من أغربها وأكثرها تنافرا.