السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي على مستوى الفرد والأسرة، حاجة ضرورية ، وغاية نبيلة، يكدح الكل لتحقيقها واقعا ملموسا في دنياه، والطموح لتحصيل ثروة تفيض عن ذلك الاكتفاء ذروة سنام الأمنيات الدنيوية في النفس البشرية، إنه الغِنى، الذي يغير الخريطة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، ويرفع من قيمة الفرد في المجتمع، فيضعه في أعلى عليين، بعد أن كان في أسفل سافلين، وهو الوسيلة الأفضل لتحقيق معظم المكاسب في شتى المجالات.
لكنه صعب المنال، لا ينال بالتمني، بل بالمغالبة، وهي حقيقة جعلت الأذان تشتد، والأعناق تشرئب، لكل ما من شأنه أن يحقق الطفرة الاقتصادية المنشودة، هنا تتعدد المشارب والآراء والاهتمامات، في طبيعة وجدوائية المشاريع الاقتصادية الناجعة، وينعكس ذلك جليا في التباين الحاد في المشاريع الاستثمارية لبني البشر، من مشاريع ذات أصول ثابتة مستقرة مضمونة العائد المادي، إلى مشاريع في شكل مغامرات غير مقطوع بجدواه الاقتصادية، نظرا لمخاطرها الجمة، إن على مستوى المستثمَر فيها من مال، أو حتى على العاملين فيها.
بيد أن المغامرة بالنفس البشرية، لتحقيق مكاسب اقتصادية، ليس دافعها الوحيد تحقيق طفرة اقتصادية كبيرة، بقدر ما هو الحاجة الماسة لسد خلة الجوع ، والبحث عن لقمة العيش، سدا لباب التسول وتحقيقا للعفة، كما هو الحال في كثير من الدول النامية، خصوصا الإفريقية منها.
وقد كانت موريتانيا بمنأى عن تلك المغامرات الطائشة حتى أواخر ابريل2016 ، حيث تداول الشارع الموريتاني أنباء واردة من منطقة (إينشيري) المنجمية شمال العاصمة نواكشوط تفيد بظهور عينات من الذهب الخالص فوق سطح الأرض، وقد تمكن فرد أو اثنان من تحقيق طموحات اقتصادية كبيرة جراء تنقيبهم ذلك، أسالت لعاب الكثيرين الذين حقق البعض منهم اكتفاء ذاتيا متوا ضعا، لكن الأسوأ هو ما توالت المواقع الموريتانية في نقله، إنه فقدان جموع من البشر هناك، إما بسبب الانهيارات الأرضية للآبار التي يتم حفرها بحثا عن الذهب، أو بسبب سقوط الصخور على رؤوس المنقبين أو حتّى بسبب العطش والاختناق الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة وغياب الأكسجين :
ففي الرابع عشر من فبراير 2017 أفاد موقع شنقيط بمقتل أربعة أشخاص في منطقة تازيازت بعد ما انهار عليهم بئر للتنقيب عن الذهب.
وفي الثامن والعشرين من نفس الشهر أكد شاهد عيان لموقع “نواكشوط الآن ” من خلال مكالمة هاتفية، أن منطقة الحفر رقم 3 تحولت إلى مقبرة جماعية للمنقبين عن الذهب، وأن رائحة الجثث هي البوصلة التي يتم بها التعرف على أماكنهم ولولاها لأصبحوا في طي النسيان، والجدير بالذكر أن تلك المنطقة تمت إضافتها إلى الحوزة الترابية لشريكة تازيازت ويتكفل الدرك الوطني بإبعاد المنقبين عنها .
وفي الثامن من مايو أوردت وكالة الوئام الوطني للأنباء أسماء أربعة أشخاص توفوا في عمليات التنقيب عن الذهب ﻓﻲ ﻭﻻﻳﺔ ﺗﻴﺮﺱ ﺯﻣﻮﺭ، ﻭﻋﺜﺮ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻌﻲ: " ﻭﺩﻳﺎﻥ ﺍﻟﺨﺮﻭﺏ " ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺒﻌﺪ ﻗﺮﺍﺑﺔ 400 ﻛﻠﻢ ﻣﻦ ﺑﻴﺮ ﺍﻡ ﺍﻛﺮﻳﻦ، ﻭ " ﻟﻜﻠﻴﺐ ﻟﺨﻈﺮ " ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺒﻌﺪ 400 ﻛﻠﻢ ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺍﺯﻭﻳﺮﺍﺕ.
وفي السابع والعشرين من مايو أورد موقع اليوم السابع الإعلامي خبر مصرع أثنين جراء انهيار بئر للنتقيب عن الذهب شمال نواكشوط.
وفي الرابع من دجنمبر أفاد موقع الجوال ميديا بمقتل ثلاثة أشخاص أثناء تنقيبهم عن الذهب في شمال البلاد.
هؤلاء الذين هربوا من واقع اجتماعي صعب، بحثا عن مصدر رزق خاطروا بحياتهم في سبيل ذلك، فكانوا كالتباع القارظان.
والقارظان: تثنية قارظة، وهو الذي يجني القَرَظُ.
والقَرَظُ مُحَرَّكَة :أي بفتح القاف والراء، هو ـــــ كما في لسان العرب ـــــ شجر يدبغ به، وقيل هو ورَقُ السِّلَم يدبغ به الأَدَمُ، وهما: شخصان خرجا في طلبه، فلم يرجعا، فضرب برجوعهما المثل لما لا يكون أبدا.
ولوجه الترابط هنا بين من خرجا في طلب القرظ فلم يعودوا، وبين من قضوا نحبهم في منطقة الذهب، ومن باب المجاز الواسع، سمينا الذهب " قَرَظُ موريتانيا الجديد".
محمد محفوظ الحارث