بعد استفتاء 05 أغسطس و موافقة الشعب عليه بنعم بنسبة تجاوزت 85 % و بنسبة مشاركة فاقت 53 %، تم تمرير ملحقي تعديل الدستور المتعلقين بإلغاء أو دمج أو تعديل بعض المؤسسات الدستورية أو بتحسين العلم الوطني و إقرارهما من قبل المجلس الدستوري و توقيع فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد عبد العزيز، على نتائج هذا الاقتراع، يدخل بلدنا مرحلة جديدة، ليس في حياته السياسية و المؤسسية فحسب، و إنما أيضا مرحلة الاهتمام الجدي بالتاريخ الوطني، ممثلة برمزية العلم الوطني في صيغته المحسنة الجديدة.
بخصوص الجانب المؤسسي، فإن إلغاء مجلس الشيوخ و استبداله بمجالس جهوية تشرك الساكنة المحلية في خطط التنمية لمناطقها ستكون له بالتأكيد نتائج إيجابية على النمو الاقتصادي للبلد. كذلك فإن دمج مؤسسات عمومية كالمجلس الإسلامي الأعلى و المجلس الأعلى للفتوى و المظالم و مؤسسة وسيط الجمهورية في مؤسسة واحدة سيعمل على ترشيد الإنفاق العام و يضمن فعالية و مردودية العمل العمومي في هذا الإطار. كما أن إضافة مكونة البيئة إلى المجلس الاقتصادي و الاجتماعي ستجعل من هذه المؤسسة تضطلع بمسؤولية البيئة التي أصبحت تؤرق اليوم معظم دول العالم و خصوصا بلدنا الذي يعاني من التصحر و تحديات بيئية أخرى عديدة.
أما فيما يتعلق بالتحسين الذي طرأ على علمنا الوطني، فإن المتتبع للفترة الممتدة من وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى سدة الحكم و حتى الآن، يدرك أن هناك توجها حقيقيا نحو الاهتمام بتاريخ البلد تعكسه زياراته و خطاباته و برامجه السياسية. لقد تجسد ذلك في الأهمية التي يوليها الرئيس لفترة المقاومة ضد المحتل الأجنبي و لجيل تأسيس الدولة الوطنية الموريتانية، فأصبح شارعان هامان من شوارع العاصمة نواكشوط يحملان اسمي المقاومة و الرئيس الأسبق الأستاذ المختار ولد داداه. و لم يكتف الرئيس بذلك، فقد زار بعض المواقع التي جرت فيها معارك تاريخية بين الموريتانيين و القوات الفرنسية، مطالبا بإعادة كتابة التاريخ الوطني و تدوينه، مردفا بأن هذا التاريخ شارك فيه كل الموريتانيون، كل بجهده و وسائله الخاصة، و هو في النهاية ملك للجميع. ثم كان مهرجان ساحة مطار نواكشوط القديم يوم 3 أغسطس الماضي، و الذي أبرز فيه الرئيس أن الدولة تعترف بتضحيات من سقطوا من ضباط و ضباط صف و جنود في حرب الصحراء و كل من سقط دفاعا عن سيادة البلد و حوزته الترابية و أنها بصدد إحصائهم و التكفل بأبنائهم و تقديم كل أنواع المساعدة لهم، فهذا الموقف من جانب فخامة الرئيس يعتبر في غاية الأهمية، لأن أي بلد لا يقدر و يتذكر من ضحوا من أجله لا ذاكرة له و بالتالي لا مستقبل له.
بخصوص تاريخ الاستعمار الأوروبي لبلدنا، أود أن أشير إلى أن هناك فترة هامة من هذا التاريخ لم تمنح حتى الآن الأهمية التي تستحق، من الجانب الرسمي على الأقل، ألا و هي فترة الاستعمار البرتغالي، التي استمرت من 1441 إلى 1634، أي زهاء قرنين من الزمن، تكبد شعبنا خلالها أقسى أشكال التنكيل و العدوان التي يمكن وصفها بالإبادة الجماعية، فتم خطف و سبي و قتل عشرات الآلاف من ساكنة هذه البلاد خلال هذه الفترة المؤلمة بحسب ما هو مدون في المراجع العلمية التي كتبها الباحثون البرتغاليون و غيرهم عن هذه الفترة. لقد قدمت أول عمل بحثي يتمثل في تحقيق و ترجمة أقدم وثيقة معروفة كتبها مؤلف برتغالي عن غارات البرتغاليين على سكان قرى شواطئنا و ذلك بعنوان: تاريخ اكتشاف و غزو غينيا أو تاريخ الغارات البرتغالية على شواطئ غرب إفريقيا و بشكل خاص على سكان الساحل الموريتاني خلال هذه الفترة أمام لفيف من الباحثين و المهتمين بالتاريخ الوطني يوم 05 أغسطس 2015 بقاعة المتحف الوطني بنواكشوط، حاولت أن نسلط من خلال هذا العمل الضوء على هذه الحقبة الاستعمارية الهامة من تاريخنا. فتاريخ 05 أغسطس له رمزية مزدوجة بالنسبة لي: فمن ناحية يرمز لتاريخ بداية نفض الغبار عن الاستعمار البرتغالي لبلدنا، و من ناحية أخرى يتزامن مع تاريخ استفتاء 5 أغسطس 2017 و الذي يمجد في ملحقه الخاص بالعلم الوطني تضحيات شعبنا، بما في ذلك التضحيات ضد المحتلين الأجانب. كذلك و في الفصل 25 من العمل المذكور نجد أنه في 8 أغسطس سنة 1444 تمت قسمة أزيد من 235 شخص من سكان جزيرة تيدره و من مختلف جزر حوض آرغين و الرأس الأبيض (نواذيبو) بعد سبيهم من قبل الجنود البرتغاليين و بيعهم في البرتغال و في العديد من الدول الأوربية الأخرى، و هذا الحدث الخطير من تاريخنا يجب أن نعطيه ما يستحق من اهتمام و نخلده كل سنة كجريمة بشعة ارتكبت في حق ساكنة هذه البلاد و قد وثقها المستعمر البرتغالي بكامل تفاصيلها.
أما بخصوص الحقبة الاستعمارية الفرنسية، فيتعين القيام ببحث تاريخي جاد بخصوص المعارك التي جرت على أديم هذه البلاد بين المجاهدين و القوات الفرنسية و الشهداء الذين سقطوا في هذه المواجهات، حتى تتمكن الأجيال الحالية و القادمة من التعرف على حجم تضحياتهم و تثمينها و تخليدها.
و بنفس الروح التي تعترف للمجاهدين ببطولاتهم و بدورهم في صيانة و حفظ كرامة هذا الشعب منذ بداية الأطماع الفرنسية في بلدنا، و التي تعود إلى بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، و حتى احتلاله الفعلي منذ نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، علينا أن نتذكر دوما أنه إذا كان المحتل الأجنبي هو عدونا الأول، فإنه كان يوجد عدو آخر لا يقل عنه خطورة، ألا و هو الفوضى السياسية و انتشار الظلم و انعدام نظام مركزي يحفظ الأمن و يقيم العدل بين ساكنة هذه البلاد. فإذا كان ضحايا آخر موجة من الاستعمار الأوربي لبلدنا قد يعدون بالمئات، فإن ضحايا "السيبة" و الاقتتال الداخلي و الظلم و قانون الغاب في بلدنا في الفترة السابقة على الاستعمار الفرنسي لا حصر لهم.
في هذا الإطار، و قبل أن نصدر حكما على بعض المشايخ والعلماء و أهل الرأي في هذه البلاد الذين اتخذوا موقفا مهادنا من المستعمر الفرنسي، علينا أن نفهم السياق التاريخي و السياسي الذي قادهم إلى هذا الاجتهاد و الذي كان دافعهم الرئيسي فيه هو محاولة تحقيق المصالح العامة لمسلمي هذا البلد وفق قراءتهم و فهمهم للأحداث التي كانوا يعيشونها أو التي كانت تدور من حولهم.
إن رؤية واقعية و عقلانية لتاريخ ما قبل استقلال الدولة الموريتانية تقودنا إلى اعتبار المقاومة جهادا مشروعا ضد المحتل و ردة فعل إنسانية لكل من تحتل أرضه و يهان من قبل الأجنبي، و لكن مقاومتنا كانت تطير بجناح واحد، فمن المعروف أن الأعمال العسكرية ليست هدفا في حد ذاتها، إنما لا بد أن يكون من وراء القيام بها تحقيق غايات سياسية محددة، و هنا يطرح إشكال المشروع السياسي لمقاومتنا: رؤية محددة للوطن، بنية تنظيمية، قيادة موحدة، تصور لنظام الحكم إن نجحت في طرد المحتل، علاقاتها الخارجية، إلخ..
من ناحية أخرى، فإن مشروع المهادنة لم يكن مضمونا، فبالإضافة إلى تشكيك الكثيرين بخصوص شرعيته و حتى مشروعيته، فإن الاعتماد على الأجنبي المخالف في الثقافة و الملة لتوفير الأمن و وقف الاقتتال بين السكان و إقامة العدل بينهم يتطلب آلية رقابة و تواصل فعالة بين الطرفين، الفرنسيين من ناحية، و المشايخ و العلماء و ذوي الرأي المهادنين من ناحية أخرى، و هو ما كان غائبا في الكثير من الحالات. مع ذلك، ظل المجتمع يحكم بشرعه و أعرافه، في المعاملات الاعتيادية، على يد قضاة تقترحهم القوى التقليدية النافذة و تجيزهم الإدارة الاستعمارية، كما كان الشيوخ التقليديون هم من يتولون إدارة رعاياهم بشكل مباشر، مما حمل البعض إلى الاعتقاد بأن الموريتانيين لم يعرفوا إلا استعمارا شكليا وغير مباشر.
إن تنمية الشعور الوطني في بلدنا يتطلب تجاوز مفهومي المقاومة و المهادنة باعتبارهما مشروعين ظهرا في فترة فارقة من تاريخنا هي نازلة الاستعمار الفرنسي و احتلاله لبلدنا، و أفرزتهما القوى الدينية و السياسية المؤثرة في المجتمع في تلك الحقبة، مما جعل لكل من هذين التصوريين مناصروه و مناوئوه من داخل نفس المجموعة أو القبيلة، و أحيانا من داخل أفراد الأسرة الواحدة. و بدلا من ذلك، يجب التركيز على جهود النخب السياسية الوطنية، و خصوصا منذ قانون الإطار 1956، مرورا بمؤتمر ألاك سنة 1958 و استقلال البلاد في 28 نوفمبر 1960 و تأسيس جيشنا الوطني و بناء مختلف مؤسسات الدولة و ملحمة جيل التأسيس و تأميم ميفرما و قرار إنشاء عملة وطنية و كون البناة الأول للدولة الوطنية كانوا مضرب المثل في الاستقامة و التعفف عن اختلاس المال العام و التضحية و نكران الذات من أجل بناء الوطن الموريتاني، فحققوا مطلب المجاهدين المتمثل في التخلص من الوجود الأجنبي، كما أنهم حققوا أهم مطالب المهادنين: إقامة دولة مركزية تحفظ الأمن و تقيم العدل بين الناس.
بخصوص حرب الصحراء، سبق لي و أن قلت في مقابلة مع قناة شنقيط الفضائية عشية تخليد عيد استقلالنا الوطني السنة الماضية، أن الذين فقدوا أرواحهم في هذه الحرب، بغض النظر عن مدى مشروعيتها و صوابيتها، هم شهداء الوطن و يجب أن يعاملوا على هذا الأساس، و كذلك كل من سقط في ساحة الشرف و هو يدافع عن قرار اتخذته السلطة الشرعية في بلدنا هو شهيد.
كذلك يجب الاهتمام بكل النقاط المضيئة التي أضيفت على مدى حقب الأنظمة الأخرى التي تعاقبت على حكم البلد بعد 1978، و خصوصا تلك التي ساهمت في تقوية بناء مؤسسات الدولة و المحافظة على الهوية الثقافية و الحضارية لشعبنا و تحقيق العدالة الاجتماعية و الحريات و الديمقراطية و الحوكمة، و غيرها من الإنجازات.
أعتقد أنه بهذه الرؤية نستطيع أن نساهم في خلق وعي وطني حقيقي، بعيدا عن الأوهام و الجدل العقيم، يساهم في تقوية التضامن الوطني و يقدم للأجيال الحالية و المستقبلية قراءة صحيحة و ناصعة لتاريخنا، بانتصاراته و انتكاساته، بأفراحه و مآسيه، كي نستفيد من الدروس المستخلصة منه و نتجنب كل ما من شأنه أن يقوض وحدتنا الوطنية و استقلالنا. إن أهم مكتسب حققناه في تاريخنا على مدى أزيد من عشرة قرون هو إقامة هذه الدولة الوطنية التي عليها أن تحفظ لكل مواطن حقه في الأمن و التعليم و الصحة و تساوي الفرص و المساواة أمام القانون، و ألد أعداء هذه الدولة هم دعاة الخصوصيات من قبلية و أثنية و جهوية و الوصوليون و الانتهازيون و المفسدون، فلنعض عليها بالنواجذ و لنتوحد من أجل الدفاع عنها و استمراريتها و تطوير مؤسساتها و التحسين المستمر لمستوى الديمقراطية فيها؛ و إذا كان هناك من تنافس مشروع، فلنحقق إنجازات أفضل مما حققه جيل المؤسسين و لنحاول أن نكون أكثر استقامة و عدلا و نكرانا للذات منهم و تعففا عن اختلاس المال العام على المستوى الداخلي، و سمعة و احترام و تقدير على المستوى الخارجي.
في الختام، لا يسعني إلا أن أقف محييا بإجلال و إكبار علمنا الجديد و كلي قناعة بما يرمز إليه من تضحيات ومثل و فق الرؤية التي أوضحت آنفا.
الدكتور أحمد ولد المصطف