كان في زمن الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم
رجلٌ يُقال له " خُزيمة بن بِشر " ؛ من بني أسد بالرَّقَّة ، وكانت له مروءة و نِعمة حسنة وفضل و بِرٌّ بإخوانه ، فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضَّلُ عليهم ، فواسَوْهُ حيناً ، ثم ملُّوهُ ، فلمّا ظهر له تغيُّرهم أتى إلى امرأته - وكانت ابنة عمه - ؛ فقال لها : يا بنت العمّ ؛ قد رأيتُ من إخواني تغيُّراً ، و قد عزمتُ على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت .
وأغلق بابه عليه ، وأقام يتقوَّتُ بما بقي عنده ، حتى نفدَ ؛ وبقي حائراً في أمره ؟!!.
نخوة شهم :
ــــــــــــــــــ
وكان خزيمة من جُلّاس والي الجزيرة عِكرمةَ الفيَّاض الرِّبعي - و سُمِّي " الفياض " لكثرة ما يفيض على إخوانه من المال والعطايا - ، و في أحد الأيام كان عكرمة في مجلسه ؛ وعنده جماعة من أهل البلد ، فجرى ذِكر خزيمة بن بشر في المجلس ، فقال الوالي عكرمة مستفهماً عن تغيبه الذي طال عن مجلسه : ما حاله ؟ فقالوا : صار من سوء الحال إلى أمرٍ لا يُوصَف ؛ فأغلق بابه ؛ ولزم بيته .!! فقال عكرمة الفيَّاض : فما وجدَ خُزيمةُ بنُ بِشر مُواسِياً ولا مُكافئاً ؟ قالوا : لا . فأمسك عن الكلام ، و عزم في نفسه على فعل شيء .
فلما كان بالليل عمد إلى أربعة آلاف دينار ؛ فجعلها في كيس واحد ، ثم أمر بإسراج فرسه ،وخرج سِرّاً دون أن يُعلم أهله ، فركب ومعه غلام من غِلمانه يحمل المال ، ثم سار إلى بيت خزيمة ، حتى وقف ببابه ، فأخذ الكيسَ من الغلام ، ثم أبعده عن الباب حتى لا يرى و لا يسمع ماذا سيكون من فعله و كلامه .
ثم تقدم عكرمة الفياض إلى الباب فدقَّه بنفسه ، فخرج إليه خزيمةُ ، و دون كلام ناوله كيس المال ، و قال له : أَصلِح بهذا شأنَكَ . فتناوله خزيمةُ ؛ فرآه ثقيلاً ؛ فوضعه ، ثم أمسك لجام دابّة الفياض ، وقال له : مَن أنت - جُعِلتُ فِداكَ - ؟ . فقال الفياض : ما جِئتُك هذه الساعةَ وأنا أريد أن تعرفني !! . فقال خُزيمة : فلن أقبل منك ما جئت به قبل ان تُخبرَني من أنت ؟ . قال : أنا "جابر عَثَرات الكرام" , قال خزيمة : زدني . قال : لا . ثم مضى عكرمة ، ودخل خُزيمة بالكيس إلى امرأته ؛ فقال لها : أَبشِري ؛ فقد أتى اللهُ بالفَرَج والخير ، ولو كان ما في هذه الصرة فُلوساً فهي كثيرةٌ جدا ؛ قومي فأَوقدي لنا السراج حتى نرى . فقالت : لا سبيل إلى السِّراج !! – لم يتبقَّ عندنا زيت نوقد به السراج !! - .
فبات ليلته يتلمس الكيس ؛ فيجد خُشونة الدنانير وهو لا يصدِّق أن هذا كله مال ؛ و أن الفرَج قد جاء .
غَيرة لطيفة ؛لكن نتيجتها رائعة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورجع عكرمة الفيّاض إلى منزله ، فوجد امرأته قد افتقدَتْه؛ وسألت عنه ؟ فأُخبِرَت بركوبه منفرداً ، فارتابت لذلك ؟!! فشقت جَيبَها ؛ولَطَمَت خدَّها ؛ و هي تظن به الظنون !!! ، فلمّا رآها على تلك الحال قال لها : ما دَهاكِ يا بنتَ العم ؟ . قالت : غَدَرتَ يا عِكرمةُ بابنة عمّك ؟. قال : وما ذاك ؟قالت : أميرُ الجزيرة يخرج بعد هَدْأَةٍ من الليل مُنفرداً دون غلمانه ؛ في سِرٍّ من أهله !! والله ما يَخرُج إلا إلى زوجة أو سَرِيةٍ ؟ ...
و هكذا المرأة إذا ما تحركت فيها الغيرة أو أثيرت شكوكها ... بركان هادر ؛ مدمر ...
فقال لها زوجها عكرمة : لقد علمَ اللهُ أَنِّي ما خرجتُ إلى واحدة مما ذكرتِ . قالت : فخبِّرْني ؛فِيمَ خرجتَ ؟ قال : يا هذه ؛ لم أخرج في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلمَ بي أحد ؟! قالت : لا بد أن تخبرني . قال : فاكتُميه إذاً . قالت : أَفعلُ . فأخبرها القصة على وجهها ، وما كان من حديث بينه و بين خزيمة و كيف أعطاه المال ؛ و كيف سأله عن اسمه؟ و كيف أجابه قائلاً : "أنا جابر عثرات الكرام" . ثم قال لزوجته : أتُحبِّين أن أحلف لك ؟ قالت : لا ؛ فإن قلبي قد سَكَن إلى ما ذَكَرتَ .
كبير يعرف قدر الرجال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلما أصبح خُزيمة صالحَ الغرماء – دفع ديونه - ، وأصلح من حاله ، ثم تجهز لزيارة الخليفة سليمان بن عبد الملك بفلسطين – وكانت عسقلان بفلسطين مصيف الخلفاء - ، فسافر إليه ، و لما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بوصول خزيمة بن بِشر للقائه – و كان الخليفة سليمان بن عبد الملك يعرف خزيمة و مروءته وكرمه - ، فأذن له بالدخول ، فلما دخل عليه وسلم ، قال له الخليفة : يا خزيمة ؛ ما أبطأك عنا ؟ قال : سوء الحال . قال: فما منعك من النّهضة إلينا ؟ - لماذا لم تأت إلينا لنسعفك ؟ - قال خزيمة : ضعفي يا أمير المؤمنين . فقال الخليفة : ففيمَ نهضت ؟ - كيف فُرِّج عنك فاستطعت أن تأتي إلينا ؟ - قال : لم أعلم - يا أمير المؤمنين - بعد هَدأَة الليل إلا و رَجُلٌ طرق بابي ، فكان منه كَيت وكَيتَ ... وأخبره القصة من أولها إلى آخرها . فقال له الخليفة : هل تعرفه ؟ قال خزيمة : ما عرفته يا أمير المؤمنين ، وذلك لأنه كان متنكِّراً ، وما سمعت منه إلا " أنا جابر عثرات الكرام " . فقال الخليفة متلهفاً إلى معرفته : لو عَرَفناه لأعنَّاهُ على مروءته .
مِنحة المبتلَى و مِحنة الشهم الكريم :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم قال : عليَّ بقَناة – ورقة ليكتب عليها - . فأُتِي بها ، فعَقَد لخزيمة الولايةَ على الجزيرة ؛ مكان ولاية عكرمة الفياض ... لقد عزل عكرمة و أقام مكانه خزيمة ؟؟؟!!
فخرج خزيمة متوجها للجزيرة ،فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه ، فسلم عليه ، و سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد ، فنزل خزيمة في دارة الإمارة ، و كان قد أعلن البحث عن " جابر عثرات الكرام " ، و جعل جائزة مغرية لمن يدله عليه .
وأول ما باشر ولايته بدأ بمحاسبة الموظفين السابقين ؛ بدءاً بالوالي السابق نفسه ، وأمر بالتدقيق في الحسابات المالية للولاية ، فوجد نقصا في خزينة الولاية لحساب عكرمة الفياض ، فأمر خزيمة أن يُؤخَذ عِكرمةُ – أن يُحَّقق معه - ، وأن يُحاسَب ، فحُوسِب ، فوُجِدت عليه فضول ٌكثيرة – نقص في خزينة مال الولاية - ، فطلب من عكرمة أن يؤديها . فقال عكرمة : مالي إلى شيء منها سبيلٌ ؟ فقال خزيمة : لا بد منها !! فقال : ما هي عندي ؛ فاصنع ما أنت صانع . فأَمر به إلى الحبس ؛ فحبسه !! ثم بعث إليه يطالبه . فأرسل إليه : إني لستُ ممن يصون مالَه بعِرْضِه ؛ فاصنعْ ما شئتَ ؟! ... رفض أن يكشف أين أنفق المال حتى لا يقال : إنه كشف عورات المساكين و المحتاجين الذين أنفق عليهم المال ؛ و منهم خزيمة نفسه ...!! سبحان ربي العظيم ؛ ما هذه النفوس الكبيرة ؟
فأمر خزيمة به ؛فكُبِّل بالحديد ، وضُيِّق عليه ، وأقام كذلك شهراً أو أكثر ، فأضناه ذلك ، و أضرّبه .
هـ – ذكاء امرأة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وبلغ إلى زوجته ما نزل بعكرمة من الضُّرِّ والأذى ،فجزعت عليه ، واغتمَّت لذلك ، ثم دعت مولاةً – خادمة - لها ذات عقل ، وقالت لها : امضي الساعةَ إلى باب هذا الأمير ؛ فقولي : عندي نصيحة . فإذا طُلِبَت منك ؛ فقولي : لا أقولها إلا للأمير خزيمة بن بشر . فإذا دخلتِ عليه فسَلِيه أن يُخلِيك – أن يكون حديثك معه على انفراد بينكما - ، فإذا فعل ؛ فقولي له : ما كان هذا جزاءَ جابر عثرات الكرام منك ! كافأْتَه بالحبس والضيق والحديد ؟ .
فذهبت المولاة إلى باب قصر الأمير ، و فعلت ما قالته لها سيدتها ، فلما سمع خزيمة دعاها ؛ فاستمع منها كلامها ، و إذا به يقول : وا سوأتاه ! وإنه لهُوَ جابر عثرات الكرام ؟ قالت : نعم .
و جاء الفَرَج :
تابع بقية القصة الشيقة بالضغط هـــــــــــــــنا