خيانة دولة (النظام الطائعي)..!!!

جمعة, 21/10/2016 - 09:21
احمد جدو

محمدو ولد صلاحي، ذلك الفتى اليافع الذي شاءت الأقدار أن يخرج إلى العالم من ركن قصي منه وبالتحديد من مدينة روصو بجمهورية البلاد السائبة عام 1970، خرج إلى عالم ظالم تآمر ضده؛ لكن صبره وعزيمته وإيمانه وثقته بالله شكلت عنوانا رئيسا؛ انتصر من خلاله على أعتى عتاة الإمبريالية والتسلط في العالم... فسقطت كل المؤامرات ضده وبقي شامخا كالطود طيلة خمس عشرة سنه الماضية...

خرج للعالم، وقد ظلمه العالم ...وكان ظلم الأقربين منه أشد مضاضة!!

فكيف حلت هذه المأساة بهذا المهندس الشاب؟ وماهي فصول القصة؟ وكم هو حجم المآمرة التي وقع ضحيتها هذا الشاب؟

في يومياته الحزينة"يوميات اغوانتانامو" يسطر السجين الكاتب قصته بأحرف من الحزن والمأساة لو نقشت على الصخر لهدته...

ولقد مثلت تلك المذكرات وخروجها إلى العلن صرخة في وجه الضمير العالمي -رغم طمس فقرات عديدة منها من قبل المخابرات الامريكية- واضعا العالم أمام مسؤولياته - إن كان قد تبقى هناك ضمير للعالم- يكتب هذا العبقري بلغة يقول عنها: ((ومع أنني كنت أعرف من قبل كيف أصرف فعل الكون(to be) وفعل الملكية(to have)؛ إلا أن متاعي من اللغة الانجليزية كان خفيفا للغاية..)).. ورغم ذلك وبالإضافة إلى منعه من كتب المطالعة فإن الفطرة الموريتانية التي يطبعها الذكاء أبت إلا أن تذلل الصعاب..ويتعلم صلاحي من سجانيه لغتهم-كما تعلموا منه الأخلاق والصبر والثقة بالله- فيكتب بها ليقرأ العالم عن مأساته الأليمة...

بدأت فصول القصة عندما تغيرت إستراتيجية القاعدة من قتال السوفيت بعد سقوط الحكومة الموالية لهم في كابول أواخر التسعينات من القرن الماضي..إلى قتال الأمريكان...ومعلوم أنه خلال فترة "الجهاد" في أفغانستان كان الغرب وعلى رأسه آمريكا يجهزون المقاتلين ويمدونهم بالسلاح والعتاد والمال؛ بل أوعزوا إلى "حلفائهم" في الشرق الأوسط على ضرورة فتح المجال واسعا أمام المقاتلين العرب للإلتحاق بالقتال في افغانستان، في لعبة دولية قذرة؛ كان وقودها الشباب العربي والمسلم..وفي خضم الأحداث ذاتها كان صلاحي قد وصل إلى الأراضي الأفغانية خلال سنتي 91 و92 فقاتل هناك وانضم الى صفوف القاعدة..وعاد أدراجه لمتابعة دراسته ليحصل على شهادة في الهندسة الميكانيكية والاتصالات الدقيقة...

وبما أن رياح القاعدة أتت بما لا تشتهي سفن القوة العظمى والقطب الوحيد، دخل الجانبان في صراع محتدم مثل تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام سنة1998 بدايته...ليبلغ ذروته في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر2001، تلك الحادثة التي غيرت وجه العالم وكشرت فيها قوى الطغيان عن أنيابها مجيشة العالم ومخوفة له في الآن نفسه؛ ضد "حفنة حلفاء الأمس" وقال بوش كلمته الشهيرة:"من ليس معنا فهو ضدنا". فأذعنت حكومات الغدر والعمالة لهذا الخطاب واهتزت فرائصها...وراح الكثير من الأبرياء ضحية ذلك ومن بين هؤلاء المهندس محمدو ولد صلاحي، الذي سلم للآمريكان يوم 28 نوفمبر2001، بعد أن أعدت المخابرات الأمريكية ملفا كاملا من "التهم المختلقة"؛ جعلت منه أهم إرهابي موريتاني؛ بل ودولي مطلوب...وضمنت  الملف كونه عنصرا من القاعدة..وقد جاء في المذكرات كيف أن المخابرات الأمريكية وضعت محمدو تحت المراقبة الدقيقة منذو 1999 عندما أنشأ موقعا إلكترونيا سهل من تواصل عناصر القاعدة( (حسب ادعاءCAI)، كما تبدو المتابعة جلية في وضع المخابرات الكندية كاميرا مراقبة في شقة صلاحي بمونتريال بكندا...ليتم اختطافه بمجرد نزوله بالعاصمة السنغالية داكار 21 يناير2000،من قبل عناصر من الF.B.I مع افراد من عائلته كانوا بانتظاره؛ ليتم إطلاق سراحهم بعد يومين في حين أبقي هو على ذمة التحقيق لعدة أيام..وبعد أن لم يجد الجانب السنغالي تهما واضحة لاستمرار حبسه؛ خيروا الأمريكيين بين أخذه أو تركه وشأنه...

عندها تم نقل صلاحي على متن طائرة خاصة إلى نواكشوط لتبدء رحلة أخرى من المتابعة والاستجواب بدأت مع المخابرات الموريتانية وانتهت بعناصر من "اف بي آي"؛ اللذين وللوقاحة والنذالة استجوبوه بالقصر الرمادي..وذات جلسة تحقيق ضربه أحدهم بقنينة ماء وقال له إن رئيسك اتصل عليه رئيسنا كي تتعاون معنا في إطار التحقيقات...

وكنماذج من أسئلتهم:

-ماذا تقصد بهذه الشيفرات؟ ركز على دراستك؟ عندما تهاتف أخيك بألمانيا.. وماذا تقصد بالسكر!!؟ وماذا تقصد بالشاي!!؟؟ وللمفارقة  أن المخابرات الموريتانية التي زودتهم بكل صغيرة وكبيرة عن صلاحي لم تفك لهم هذه الشفرات التي لا يحسنون سوى استعمال موادها...!!!

ويمكن تلخيص أهم النقاط التي أثارها المحققون الآمريكيون حول ما جعلوا منه تهم!! وأي تهم؟؟ في كونه:

1-عضوا في القاعدة

2-مهندسا ذا خبرة عالية!!

3- التقاط المخابرات الآلمانية مكالمة له سنة 1999 مع أبو حفص  "مفتى القاعدة"

4- تحويله ل 4000 دولار خلال شهر رمضان سنة 1999 لأسرة أبي حفص؛ الذي كان يتلقى هبة من الولايات المتحدة قدرها 5ميلون دولا لتزداد الهبة إلى 25 مليون دولار بعد أحداث سبتمبر!!!!!! (ص:41).

5-سفره من آلمانيا إلى كندا في خضم الأحداث وإمامته لمسجد كان يرتاده المتهم في محاولة تفجير مطار "لوس آنجلوس"؛ المعروفة بمؤامرة الألفية...

6-مساهمته في تواصل عناصر القاعدة، وهو ما نفاه صلاحي(ص:226).

7-تواصل صلاحي مع كريم مهدي؛ الذي اعتقل بفرنسا2003 لضلوعه في تفجيرات جزيرة "رينيوه"، حيث أطلع المحققون صلاحي على رده برسالة إلكترونية  بعثها إلى مهدي جاء فيها"أخي العزيز من فضلك توقف عن إرسال الرسائل؛ لأن المخابرات تراقب بريدنا الإلكتروني وهم يزعجونني كثيرا جراء ذلك"

8- اتصاله على الشركة الراعية لشبكة الاتصالات الدولية بالولايات المتحدة لإصلاح عطل فني بشركة عمله بنواكشوط...

9- سماحه بالمبيت لثلاثة أشخاص بشقته في آلمانيا؛ قبيل أحداث الحادي عشر ..وقد تبين أن من بين هؤلاء الثلاث رمزي بن الشيبه؛ أحد المتهمين الرئيسين في تلك الأحداث...

لقد صادر المحققون الآمريكان، كل أجهزة الحاسوب لدى صلاحي؛ الشخصي منها والعائلي بما في ذلك حاسوبه الذي كان يستخدم بألمانيا؛ والذي وهبه لزوجته فتكفلت المخابرات الموريتانية بالبحث عنه وتسليمه لضباط المخابرات الأمريكية ...إضافة إلى حاسوب الشركة التي كان يعمل لصالحها..والذي كان على قرصه الكثير من الوثائق والصور من بينها  صورة يظهر فيها ولد الطائع واقفا خلف صلاحي بمدينة تجكجة؛ يبدو فيها منبهرا بإنشاء بث مباشر عبر الإنترنت..الصورة التي لفق الآمريكيون له من خلالها تهمة محاولة اغتيال الرئيس...في الوقت الذي يذكر فيه صلاحي" أن الرئيس كان يقف خلفي مندهشا من تعاملي الساحر مع الكومبيوتر".

كل هذه الملاحظات وغيرها ساهمت في تسليم محمدو من قبل النظام الطائعي؛ الذي كان يبحث عن كبش فداء يقدم قربانا إلى أسياد من الأمريكان...؛ وقد كانت هجمات 11 سبتمبر من نفس العام حدثا فارقا، لم يكن لولد الطائع معه إلا أن يسلم ابن وطنه في ذكرى  استقلال بلاده 28نوفمبر...وذلك بعد اتصال مباشر من الرئيس الآمريكي حينها..

ورغم المعاملة السيئة التي لقيها محمدو من مختلف عناصر المخابرات الوطنية والدولية إلا أنه كما قال؛ تبقى هناك نفوس طيبة لا تستمتع بإلحاق الأذى بالآخرين؛ مستدلا بتصرفات بعض من أفراد الشرطة الموريتانية(ص:161) الذين كانوا يرغبون في أن يهرب صلاحي لعلمهم التام أنه برئ من التهم التي لفقت له...

يصف ولد صلاحي لحظات تسليمه قائلا:" أرسل المدير -يقصد مدير المخابرات الموريتانية- معاونيه في مهمة وسرعان ما عاد ومعه أشياء رخيصة، بعض الملابس وحقيبة...!!! " (ص:168)

إضافة إلى أحذية ابلاستيكية...!!!! فكما باعوه بثمن بخس ...ألبسوه لباسا بثمن بخس..!!! وكانوا فيه من الزاهدين...

ورغم المصير المجهول الذي يساق  صلاحي نحوه؛ فإنه كان ثابتا رابط الجأش فينتقد المظهر الذي بدى عليه رئيس شرطة المطار قائلا:" كان يرتدي 'بوبو' مهترئة"( خطأ في الترجمة المقصود هنا فضفاضة مهترئة...

وللمفارقة فإن لحظات قليلة قبيل نزول طائرة الشيطان الأردني-كما وصفه صلاحي- فإن رئيس الاستخبارات ومعاونه ورئيس شرطة المطار كانوا يصطفون خلف صلاحي لأداء صلاة المغرب.(ص:173).يأتمنونه على دينهم ويسلمونه إلى الكفار!!!!

سلم محمد ولد صلاحي إلى المجهول..فمكث ستة أشهر من التحقيق بالسجون الأردنية؛ وما تعرض له خلالها من تعذيب نفسي وجسدي..وعندما لم يجدوا عليه تهما حقيقية... لم يقنع ذلك الامريكيون فنقلوه إلى باغرام ومنها إلى اغوانتانامو مع مجموعة من المعتقلين مصفدين بالأغلال ومجردين من كامل الثياب...وهناك في ذلك المعتقل سئ الصيت خضع صاحبنا رفقة عشرات المعتقلين إلى أقسى صنوف التعذيب والمهانة في جو غابوي سيطر فيه القوي ملتهما الضعيف... ومتنكرا لكل الشعارات الزائفة التي كان يتشدق بها...!!!

يقول محمدو" لن تستطيع أن تعرف مقدار الألم الجسدي والنفسي الذي تعرض له أناس مثلي مهما حاولت ...ولكن المصيبة أنك لا تستطيع الإعتراف بشئ لم تقوم به ...إنها ليست مسألة نعم فعلت وانتهى؛ كلا...بل يجب أن تخلق قصة ذات معنى حتى تكون مقبولة لدى الصم والبكم"(ص:256)

وهذا المنحى ظل يؤكده صلاحي دائما حيث يقول"بذلت جهدا واسعا لإقناع الولايات المتحدة بأني لست ذرة(بضم الذال)... مستحضرا تلك الحكاية في التراث الشعبي الفلوكلوري الموريتاني التي تتحدث عن  ذلك الشخص المصاب ب(ديكوفوبيا)..، وفي  وثيقة بخط اليد مرسلة إلى محاميته سيلفيا روليس، بتاريخ 9نوفمبر 2006، يخاطبها؛ لإيجاز قصتي الطويلة، يمكنك أن تقسمي سجني إلى مرحلتين أساسيتين:

1- مرحلة ما قبل التعذيب:أخبرتهم الحقيقة عن نفسي بأنني لم أقم بشئ ضد بلدكم..دامت هذه المرحلة حتى 22 مايو 2003.

2- مرحلة ما بعد التعذيب: حيث انفرطت مكابحي؛ لقد وافقت على كل تهمة وجهها إلي المحققون، حتى أنني كتبت اعترافات ضئيلة الأهمية للتخطيط لضرب برج CN في تورينتو ...

بعد الخيانة العظمى التي تعرض لها صلاحي؛ كمواطن موريتاني من طرف سلطات بلاده... وبعد قضاء خمس عشرة سنة في زنزانات الجحيم بغوانتانامو..حط صلاحي الرحال بمطار نواكشوط الدولي على متن طائرة عسكرية آمريكية يوم 17 أكتوبر2016... كما أقتله ذات يوم أختها من نواكشوط إلى الأردن فباغرام فخليح كوبا في رحلته نحو جحيم لم يتسبب في حصوله...!!!

لكن ألا يحق لنا كموريتانيين؛ أن نطالب بمعاقبة الجناة -وهم لا يزالون أحياء يرزقون- موريتانيين كانوا أم أجانب؟؟ أليس هذا حقا لا يسقط بالتقادم؟؟

ألا يجب على الأمة الموريتانية أن تقدم للعدالة من خانوا الأمانة، ودنسوا السيادة؛بتسليمهم مواطنا موريتانيا لدولة أجنبية، في ذكرى استقلال البلاد ومن القصر الجمهوري حيث تم اختطافه!!!؟

ألا يجب أن تعتذر الدولة لهذا المواطن؛ وأن تعوضه ماديا وتعيد له الإعتبار معنويا خلال مأساته عقدا ونصف من الزمن...ألم يتعرض لخيانة دولة كان من المفترض أن تحافظ على سلامته وأمنه..بدل تسليمه لعدو غاشم!!!؟؟؟؟

احمد جدو ولد محمد عمو