ثلاثة أعوام هي تجربتي مع التدريس في مدرسة ابتدائية.. قد أنسى الكثير من أحداثها وقصصها .. إلا قصة (الحسين) !!
كان الحسين طفل التاسعة في الصف الرابع الابتدائي .. وكنتُ أعطيهم حصتين في الأسبوع .... كان نحيل الجسم .. أراه دائماً شارد الذهن .. يغالبه النعاس كثيراً .. كان شديد الإهمال في دراسته .. بل في لباسه وشعره .. دفاتره كانت هي الأخرى تشتكي الإهمال والتمزق !! حاولت معه مراراً أن يعتني بنفسه ودراسته .. فلم أفلح كثيراً !! لم يُجْدِ معه ترغيب أو ترهيب !! ولا لومٌ أو تأنيب !!
ذات يوم حضرتُ إلى المدرسة في الساعة السادسة قبل طابور الصباح المعتاد بساعتين كاملتين تقريباً....
كان يوماً شديد البرودة ..
فوجئت بمنظر لن أنســـــاه !!
دخلت المدرسة فرأيت في زاوية من ساحتها طفلين صغيرين .. قد انزويا وانضما على بعضهما .. نظرت من بعيد فإذ بهما يلبسان ملابس بيضاء رقيقة.. لا تقي جسديهما النحيلة شدة البرد .. أسرعت إليهما دون تردد .. وإذ بي ألمح (الحسين) يحتضن أخاه الأصغر ( أحمد ) التلميذ في الصف الأول الابتدائي .. وكان الحسين يجمع كفيه الصغيرين المتجمدين وينفخ فيهما بفمه !! ويفركهما بيديه !!حتى يحس قليلا بالدفء.
منظر لا يمكن أن أصفه .. وشعور لا يمكن أن أترجمه !!
دمعتْ عيناي من هذا المنظر المؤثر !!
ناديته : الحسين .. ما الذي جاء بكما في هذا الوقت !؟ ولماذا لم تلبسا لباساً يقيكما من البرد !!
فازداد الحسين التصاقاً بأخيه .... ووارى عني عينيه البريئتين وهما تُخفيان عني الكثير من المعاناة والألم التي فضحتها دمعة لم أكن أتصورها !!!!
ضممت الصغير إليّ .. فأبكاني برودة وجنتيه وتيبس يديه !!
أمسكت بالصغيرين فأخذتهما معي إلى غرفة المكتبة ..
أدخلتهما .. وخلعت الجاكيت الذي ألبسه وألبسته للطفل الصغير !!
أعدت على الحسين السؤال : الحسين .. ما الذي جاء بكما إلى المدرسة في هذا الوقت المبكر !! ومن الذي أحضركما !؟
قال ببراءته : لا أدري !! السائق هو الذي أحضرنا !!
قلت : ووالدك !!
قال : والدي مسافر إلى المنطقة الشرقية والسائق هو الذي اعتاد على إحضارنا حتى بوجود أبي !!
قلت : وأمــــك !! أمك يا الحسين .. كيف أخرجتكما بهذه الملابس الصيفية في هذا الوقت البارد !؟
لم يجبني (سكت وطأطأَ رأسه ) وكأنني طعنته بسكين !!
قال أحمد ( الصغير ) : ماما عند أخوالي !!!!!!
قلت : ولماذا تركتكم .. ومنذ متى !؟
قال أحمد : من زمان .. من زمان !!
قلت : الحسين .. هل صحيح ما يقول أحمد !؟
قال : نعم يا أستاذ من زمان أمي عند أخوالي .. أبي طلقها .... وضربها .. وراحت وتركتنا .. وبدأ يبكي ويبكي !!
هدأتهما .. وأنا أشعر بمرارة المعاناة وخشيت أن يفقدا الثقة في أمهما .. أو أبيهما !!
قلت له : ولكن والدتك تحبكما .. أليس كذلك !؟
تابع بقية قصة الحسين وأخيه التي تُدمي القلوب وتبكي العيون