يعتبر محور التعليم العالي والبحث العلمي مدخلا أساسيا وشرطا ضروريا لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المهمة التي تقتضيها الإستراتجية التنموية الوطنية المستقبلية في إطار ما يسمى بالجمهورية الثالثة التي تحاول دولتنا أن تتبناها ، فما هو ذلك التعليم العالي والبحث العلمي البناء والفعال الذي ينتج الكادر البشري المرن ؟ و هل البنية التعليم الحالية المعتمد في مؤسسات التعليم العالي تلبي احتياجات السوق ؟ أم أنها حبل المشنقة أو سيف الجلاد للشباب الموريتاني ؟
و تعتبر جامعة انواكشوط صرحا علميا شامخا ، فيه من العلوم الجمة ، والتخصصات الغزيرة ، ما نستطيع من خلاله ، الحصول على مصادر بشرية أسياسية في مجال التربية والتكوين .. والعمل والبناء .. ، لكن هذا البرنامج التعليمي المعتمد في هذه الجامعة يعاني من عدة مشاكل منها ما هو متعلق بالهيكلة الأساسية للمسطرة التعليمة ، ومنها أيضا ما هو متعلق بالتكوين ومتطلبات السوق ... الشيء الذي أدى خلق مشكلة كبرى وهي البطالة ، وذلك بسبب غياب نظام يضبط العلاقة بين الجامعة والسوق.
وبما أننا هنا نتكلم عن التعليم العالي والبحث العلمي ، ضرورة إعادة الهيكلة ومراجعة الاستراتيجة ، والحديث طبعا مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي ، فلا بد من عرض الهدف الأساسي الذي أنشأت له هذه المؤسسات ، ثم بعض المشاكل التعاني منها و بعدها سنحاول القيام بمعالجة لهذه الإشكالية المذكورة آنفا ، وذلك من خلال عرض مجموعة من المقترحات والاستراتجيات التي نرى أنها ضرورة ، وأساسية لإصلاح منظومة التعليم العالي والبحث في بلدنا.
وتهدف مؤسسات العليم العالي والبحث العليم في بلدنا نحو نهضة الوطن والشعب الموريتاني من خلال صياغة المواطن على أسس القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة والتمسك بعقيدته وحقوقه الوطنية , وإحداث التنمية المستدامة وتحقيق مستقبل مشرق لبلده ولشعبه. ومن بين هذه الأهداف الأساسي أو ما يجب أن تقدمه هذه المؤسسات للبلد ما يلي:
تجهيز العمالة الماهرة والمدربة فى مختلف التخصصات لخدمة التنمية.
المساهمة الفاعلة فى التنمية البشرية.
تقديم المعرفة والمساهمة فى نشرها.
تطوير القاعدة التكنولوجيا للوطن
المساهمة فى تحقيق طموحات وتطلعات الوطن فى الحاضر والمستقبل.
وبالنظر إلى البنية التعليمية المعتمد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية مثلا نرى الكثير من التخصصات التي لا تخدم السوق ، ولا تساعد الشباب في الولوج إلى العمل ، ومن هذا التخصصات مثلا الأدب الفرنسي .. و الفلسفة .. و التاريخ .. و تخصصات في اللغة كالفرنسية والاسبانية ، والصينية . كان من الأحرى أن تدرس هذه التخصصات كمواد لا كتخصصات ، وهذا هو عين الصواب لإن الأدب الفرنسي على سبيل الميثال لا يخدم الشباب ، و لا يساعدهم في الولوج إلى العمل الذي من خلاله يستطعون الرفع من مستوى الإنتاج في بلدهم ، وكذلك الفلسفة – المادة التي تساعد الإنسان على تنمية الفكر – كان أجدر بها أن تدرس كمادة ، أما أن يفتح لها تخصص ( ماستر في الفلسفة ) فهذا ما نعتبره غلو وتطرف في حق السوق الموريتاني أولا التي تحتاج إلى كادر بشري منتج يساعد في بناء الدولة ، وكذلك ظلم وخطأ فادح ثانيا في حق مستقبل الشباب الموريتاني الذي يطمح أن يسير ببلده نحو سلم التطور والازدهار. والتاريخ كذلك كان من الأحرى هو الأخر أن يدرس كمادة ، وذلك لكونه يعالج الأحداث في حيز جغرافي معين ، ومدة زمنية محددة. أما ما يتعلق باللغات الأجنبية فهي الأخرى يجب أن تدرس كمواد لا كتخصص لنيل الشهادات العليا . وهنا يجب أن نوضح شيئا مهما وهو حقيقة تعريف اللغة ، البعض يظنها أداة تواصل ، وهذا تعريف سطحي هو المتبادر إلى أذهان الجميع ، والخطأ الكبير الذي وقعت فيه الكثير من الدولة الإسلامية وخصوصا دولتنا. واللغة في حد ذاتها لا تعتبر أداة تواصل فحسب بل هي أداة لخلق الثقافات والقيم.
“Language is not the tool of communication but it is the tool to create cultures and values”
و هذا هو سبب ما نلاحظه اليوم من انحراف الشباب (سنة المراهقة ) – موجة الإلحاد المتزايدة في بلدنا- وخصوصا الذين تعمقوا في دراسات هذه اللغات ، فلقد أصبحت لديهم ثقافة وقيم تلك المجتمعات الأجنبية التي وصلوا إليها عن طريق تعلمهم وإجادتهم لهذه اللغات.
كما نلاحظ كذلك تهميش بعض التخصصات المهمة في هذا كلية ، والتي نرى أنها أساسية في بناء الدولة مثل المكتوبات والتوثيق ( انظر في إداراتنا كيف يتعاملون كيف يدبرون أمور الأرشيف) ، والجغرافيا ، واللغة العربية ، والسياحة ، والهجرة ... هذه تخصصات مهمة تساعد السوق الموريتانية ، وذلك بالمصادر البشرية التي تكونت في هذه المجالات.
والمشكلة نفسها التي تعاني منها هذه الكلية ، تعاني كذلك منها الكليات الأخرى ، فكلية العلوم القانونية والاقتصادية هي الأخرى تعاني من مشكلة كبرى وهي مشكلة التنظيم والرقابة ، مع العلم أن هذه الكلية هي العمود الفقري الذي يقوم عليه التعليم العالي والبحث ، وذلك لكونها تكون القانونين والاقتصاديين الذين تعتمد عليهم الدولة في هذه المجالات الحساسية ، إلا أنها وللأسف هي الكلية الأكثر تهميشا في الجامعة. أما ما يتعلق بكلية الطب و كذلك كلية العلوم والتقنيات ، فالأمر أصعب واشد مما كنا نتوقع ، رداءة التكوين .. قلة المعدات .. مع أن هذه المؤسسات هي المسؤولة عن إنتاج كادر بشري أساسي ومهم يعمل في قطاعات حساسة .
وليست المعاهد الجامعية ببعيدة عن هذه المشاكل ، بل إن البعض منها يمكن الاستغناء عنه لأنه يحمل الدولة من التكاليف الباهظة ما تستطيع استثماره في مجالات أخرى ، وأخص بالذكر المعهد العالي للمحاسبة والمعهد الجامعي المهني ، وذلك لكون هذين المعهدين يسعيان إلى تكوين كادر بشري مهني وهذا الأمر يمكننا أندمجه في الجامعة ، وذلك بفتح تخصصات مهنية في الجامعة ، الشيء الذي نستطيع من خلال التقليل من التكاليف الباهظة التي نفق على هذه المعاهد. وهنا يجب أن نوضح أمراه مهما ، لكي لا يفهمنا البعض فهما خاطئا ، وهو أن بعض كليات الجامعة تستطيع -مع بعض التعديلات- أن تؤدي الدور الذي يعلبه هذان المعهدان المذكوران . ويجب علينا أيضا أن نظر إلى خصوصيتنا وهي أننا دولة من دول العالم الثالث ، وأن نأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصية ، وأن نكيف معها وضعنا التعليمي ، وأن لا نظر إلى الدولة المتطورة التي تمتلك الكثير من الموارد التي تساعدها في استراتيجياتها.
وتوجد كذلك بعض المعاهد والمراكز التي يجب الاستغناء عنها مثلا معهد اللغات الحية الذي تستطيع كلية الآداب أن تعلب دوره والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية الذي هو الآخر تستطيع الجامعة الإسلامية أن تلعب دوره .. هذه المعاهد والمراكز التي تزيد النظام التعليمي تعقيدا يجب الاستغناء عنها ، واعتماد جامعة عصرية نموذجية فيها جميع التخصصات والمعدات للازمة والضرورية لإنجاح عملية التكوين . هذا سيقلل من نسبة التكاليف أولا ، ثم الحصول على نظام تعليم بسيط يمكن تدبيره بسهولة .. وكذلك الحد من نسبة البطالة ..إلخ
ومن هذا المنظار نرى أنه يجب إعادة الهيكلة لهذه البنية التعليمة في هذه المؤسسات، وكذلك مراجعة الاستراتيجة المتبعة لها .
و للوصول إلى تعليم عالي ناجح يجب تجديد المواد والتخصصات تماشيا مع متطلبا السوق ، وكذلك إعادة صياغة استراتيجة جديدة من أجل تحقيق الأهداف المرسومة والمرجوة من هذه التعديلات الضرورية. ونقترح على سبيل المثال نظاما فعالا ينظم العلاقة بين والمؤسسات التعليم العالي وسوق ، بمعنى أن تكون هذه المؤسسات كادرا بشريا يغطي متطلبات السوق واحتياجاته ، ولا يمكن في نظرنا أن يتم هذا إلا بالرجوع إلى النقاط التالية:
صياغة برنامج متكامل لإصلاح منظومة التعالي العالي والبحث العلمي
اختيار اللغة العربية لغة رسمية في التعليم العالي : لأن اللغة الأم هي التمكن الطلاب من فهم البرنامج التعليمي وتساعدهم على إنتاج بحوث عالية الجودة
إعداد نظام يكون أساتذة التعاليم العالي
احترام المدة الزمنية المحددة للبرنامج التعليمي
إكمال جميع المقررات خلال السنة الدراسية في الكلية
تشجيع الطلاب على البحوث الميدانية التي تساعد في حل المشكلات التي يعاني منها السوق
تشكيل مركز جامعي لمراقبة مسار التعليم العالي ، يضم مجموعة من الخبراء لمتابعة مراحل التعليم في الجامعة.
التركيز على التخصصات التي تخدم السوق الموريتانية
إقامة ندوات تبين إلى للطلاب مدى أهمية البحث العلمي في حل المشاكل التي يعاني منها السوق ...
الاستغناء عن بعض مؤسسات التعليم من أجل تبسيط النظام التعليمي لأنها وجودها يزيده تعقيدا
مراقبة الجودة : عملية مراجعة مخرجات النظام وقياسها على مجموعة من المعايير القياسية واتخاذ الإجراءات المناسبة عندما لا تنطبق مخرجات النظام مع هذه المعايير.
ضمان الجودة: مجموعه من العمليات المبرمجة منطقيا والتي تهدف إلى وقف المشاكل التي تعترض تنفيذ الجودة من خلال تنفيذ خطوات محددة تشمل عمليات المراجعة وإصدار التقارير وغيرها من الوسائل التي تضمن جودة ما يقدم للعميل.
وتقوم الجود في التعليم العالي على ثلاثة مخرجات هي: الخريجين و الأبحاث العلمية ، وخدمة المجتمع.
ولضمان تحقيق هذه الجود يجب مراعاة الكثير من المسائل منها ما يتعلق بالطلاب ،و يشمل سياسات القبول بالجامعة ، و برامج الإعداد ، وشروط القبول للكليات ، وبرامج لإكساب الطلاب مهارات خاصة كاللغة وغيرها ، ومنها أيضا ما يتعلق بالمقررات الدراسية و يشمل تحقيق أهداف المقررات الدراسية وتصميمها ، و مدى ملائمة هذه المقررات لقواعد التعليم بشكل عام. كما يجب على هيئة التدريس أن تخصص لها سياسة تعيينات فعالة وكذلك تطوير قدراتها، و وضع خطط للتدريب المستمر لأعضائها. أما ما يتعلق منها بالجامعة ، فيجب أن تضم مبانى مناسبة للكليات ومناطق خضراء قاعات دراسية مناسبة ومجهزه ، و مكتبات ، وخدمات اتصال بالشبكة الدولية ، ودعم مالي ، ودعم تقنى ويشمل العاملين المؤهلين.
والتعليم العالي والبحث العلمي هما شريان الحياة للمجتمعات فبيهما تزدهر وتتقدم الدول ، وكل دول العالم المتقدمة بدأت رحلة تطورها بتطوير هما ومواكبتهما للعصر لذا يمكن القول أن كل عملية تنموية مبنية بالأساس علي التعليم وخصوصا التعليم العالي .إن وضعية هذا القطاع في بلدنا تحتاج تكاتفا للجهود وتدخلا سريعا من الحكومة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، إذ أنه في يعاني من تراكمات عقود من الإهمال.
سيدي محمد ولد داها : باحث في إدارة الاستراتيجيات