تمر الحضارات في مسيرتها عبر التاريخ بمراحل النشأة والتطور والنهوض ومن ثم الضعف والتراجع فالإندثار.
وهذه سنة كونينة في تدافع الأمم وتداول الأيام بين الناس.
وقد كانت حضارتنا الإسلامية من بين تلك الحضارات التي ازدهرت وازدانت تحت راية مؤسسها العظيم الرحمة المهداة للعاملين محمد الأمين صلى الله عليه وسلم الذي وضع لبنتها الأولى في عاصمة دولة الإسلام الناشئة حينها، مدينة رسول الله صلى عليه وسلم.
ففي تلك المدينة الفاضلة، شهدت البشرية نظاماً جديداً تجسدت فيه معاني الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
فكان القرآن الكريم يتنزل منجما على قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم للحكم بين الناس وعلى الناس بشرعة الله التي ارتضاها واختارها لتكون دستورا وشرعة بها يرتقون في سلم الإصطفاء، من براثين نزعتهم البهيمية إلى طور المكان الروحية الملائكية عندما يحققون خالص التوحيد وصفاء النية وسلامة القلب، فيكونون بذلك أصحاب قربة وحظوة من باريهم وخالقهم.
وهم في هذا البعد يحققون معنى العبودية لله عز وجل ويخرجون عن عبودية من سواه
(نحن قوم إبتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
كما كان القرآن وهو يتنزل منجما؛ يمهد الطريق أمام معتنقيه إلى تقبل الأحكام الشرعية وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، لما في ذلك من لطف ورحمة بالمؤمنين.
وقد شكلت أولى اللبنات التي بني عليها المجتمع الإسلامي بعد بناء المسجد الذي أسس على تقوى من أول يوم، هو الإجراء الإجتماعي العظيم - الذي يشكل عصفا بكل التابوهات العنصرية والعنجهية التي رسخ لها مجتمع الجاهلية - ألا وهو القرار التاريخي العظيم الذي اتخذه قائد الأمة صلى الله عليه وسلم وهو "المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار".
نعم فمجتمع الإسلام حديث النشأة هو أحوج ما يكون إلى رص الصفوف وإلى أن يكون كالجسد الواحد تجسيدا لمعاني أخوة الدين، وكلام رسول رب العالمين.
نعم كان الصحابة المهاجرون من مكة في حاجة إلى من يواسيهم، وقد فقدوا كل متاع الحياة الدنيا وهم يهاجرون إلى الله ورسوله.
كما كان قائد الأمة صلى الله عليه وسلم حريصا على إظهار مكانة المسلم أيا كانت ميزته الاقتصادية أو الاجتماعية فوجد فقراء المهاجرين والمستضعفين من المسلمين مكانتهم اللائقة بهم في دنيا دولة الإسلام الناشئة.
وساوى فيها بين بلال رضي الله عنه الحبشي وسلمان الفارسي رضي الله عنه وأبي بكر الصديق القرشي رضي الله عنه.
هكذا وضعت اللبنات الأولى لتأسيس هذه الحضارة التي تدخل قرنها الخامس عشر، ولا يزال دينها يتغلغل في كل المعمورة ويدخله المعتنقون فرادى وجماعات.
ولئن كانت العصور الذهبية لهذه الحضارة قد أفل نجمها مع انقضاء عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة فإن الخيرية لا تزال باقية في هذه الامة، رغم كونها مثخنة بالجراح.
فلقد تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها!.
وليس ذلك من خور في الدين أو في تعاليمه ولكن منا نحن أبناء الإسلام في هذا الزمان فلقد هجرنا الدين وتعاليمه وأصبح الاسلام عندنا من "العرفيات"، التي كثيرا ما يخالطه التحريف.
فتكالب الأعداء من الخارج وما خلفوه وراءهم من أذيال بعيد اندحار استعمارهم العسكري، شكل ضربة قوية في خاصرة هذه الأمة، إضافة إلى الحدود المصطنعة التي قطعوا فيها جسم الأمة ومزقوا فيها إثنيات وأعراق.
أمور من بين أخرى أضحت خنجرا مسموما كاد أو يكاد يقضي على كينونة هذه الأمة.
وليس "الورم الخبيث" الذي تم زرعه في قلب الأمة النابض فلسطين إلا دليل على المكيدة الكبرى والمؤامرة المخطط لها منذو قرون من أجل الفتك بكينونة هذه الأمة التي تمثل قلب العالم النابض من الطاقة والموارد الطبيعية.
فأي دور للعلماء والمفكرين والكتاب وقادة الرأي في تغيير واقع الأمة المزري!؟
إن دور العلماء والمفكرين والكتاب وقادة الرأي هو "حمل هم الأمة" وتنوير الرأي العام ونشر ثقافة "مقاومة الاستبداد والطغيان السياسي..."
وتأطير الشعوب وتوعيتها من سباتها العميق ومن غيبوبتها التي طالت واستفحلت....
إن الواجب على رجالات الأمة دحر العدوان الهمجي الذي يستهدف مقومات هذه الأمة ومقدراتها من الداخل...
فلن تتخلص هذه الأمة من سطوة الغرب والقوى الإستعمارية المعادية لها، إلا باجتذاذ ذيول تلك القوى من الداخل عبر مواجهة الإستبداد والطغيان الذي يتنامى في بلداننا العربية والإسلامية، والتي ينهك جسم الأمة عبر تحييد إمكانياتها الضخمة الممكنة لها من النهوض...
فتحييد المعاني السامية لهذا الدين والتي تنبني عليها أهداف التشريع وفحوى الإستخلاف، من "جلب للمنافع"، "ودرء للمفاسد"، أمر أصبح يغض مضجع كل إنسان له كرامة.
فأضحت شعوبنا في هذا الواقع ترزح تحت وطأة الفقر المدقع المنسي، وفقدان الأمن بشقيه، في الأنفس وفي المال.
ناهيك عن الأمن الغذائي الذي أضحى أثرا بعد عين، وكأن بلاد الإسلام لم تكن لها اكتفاء من الغذاء ذات يوم، وكأن الأمير العادل خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله لم يخاطب عمال دولته ذات يوم " أن أنثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين".
ما أحوجنا إلى قائد مثلك هذه الأيام فلقد جاع المسلمون وماتوا قتلا وتشريدا أما عن الحياة البرية والمحيط الحيوي فالسؤال عنه ترف فكري أنا لنا أن نهتم به!؟.
إن السبيل الوحيد لإيقاظ الأمة من هذا السبات المميت وإخراجها من هذا الوحل المستحكم، يجب أن يكون بتحمل قادة الرأي والفكر فيها لمسؤولياتهم في نشر الوعي وتثقيف الناس على مكمن الداء، ألا وهو "الاستبداد السياسي والطغيان الذي يتحكم في بلدانهم"؛ والتي ترتهن من خلاله إلى أعداء الأمة.
يكون ذلك من العلماء الربانيين الذين يقولون كلمة الحق عند سلطان جائر، كما يكون من الأدباء والكتاب وحاملي فكر الفطرة البشرية السليمة، التي فطر الناس عليها.
فقادة الرأي، الذين يعيشون للأمة ومن أجلها، هم من يقع على عاتقه تبصرة الناس في واقع حالهم وما يترتب على ذلك من مخاطر وهزات مجتمعية قد لا تتأتى معرفتها لعموم الناس.
كما على أولئك الذين يحملون هم الأمة أن يكونوا بالمرصاد لباعة الضمير والمواقف في سوق نخاسة الاستعباد والإستبداد مقابل لعاعة آنية.
فالواجب تحجيم دور هؤلاء وحصرهم في زاوية الخيانة والنذالة وبيع الضمير، حتى لا يجد خطابهم الإنبطاحي المثبط والمطبل والمتملق لكل نظام طريقه إلى ضعاف النفوس من أبناء الأمة.
إن الذين يحملون هم الأمة يجب أن يعلموا جازمين أنهم حاملوا مشعل رسالة قائد الأمة ومنشئ نهضتها محمد الأمين صلى الله عليه وسلم، فحسبهم شرفا هذا المقام.
ولن ينالوه إلا بكثير من المجاهدة وطريق شائك؛ فيه من الأذى الشئ الكثير ولكن ختامه مسك، عندما تعود الأمة إلى سالف مجدها وتحيا كما حيي الرعيل الأول في عاصمة الإسلام الأولى مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
نعم سينام حامل مشعل تلك الرسالة قرير العين وهو يرى الأمة تعيش معاني إسلامها وتستظل برايته الوارفة، وتنعم برخاء عدله وعدالته، ويمكن لها فوق أرض ربها وتحت سمائه.
(وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ).
صدق الله العظيم
الآية :55 من سورة :النور
الكاتب، احمد جدو ولد محمد عمو ولد إگه.