يوم ليس كغيره من أيام الأسبوع، تسابق فيه "ابيتيله" الزمن لعبور كثبان "بولنوار" الرملية متجهة نحو الحقول قاطعة 6 كيلومترات سيرا على الأقدام، إنه يوم السقاية الكبير, إذ من المتوقع أن يتوفر حقل ابيتيلة على الماء لمدة 3 ساعات من الساعة 8 وحتى 11 صباحا.تركت مدينة " أطار"، حيث ولدت قبل عقود، متجهة صوب مدينة نواذيبو الشاطئية في موريتانيا طلبا لحياة أفضل إلا أن ضيقا في التنفس لازمها مع مرض الربو وضعف السمع أديا إلى طردها من مدينة انواذيبو إلى ضواحي بلدة بولنوار، هكذا روت لنا ابيتيله وهي تحاول اللحاق برفاق العمل.بدأت قصة السيدة الخمسينية مع الريف والبادية عندما أثقلتها حياة المدينة بالهموم والأمراض وغاب الزوج الذي وافته المنية قبل عقد من الزمن تقريبا تاركا لها صغارا تعيلهم وحدها وتشرف على تربيتهم وتعليمهم في ظروف قاسية خصوصا داخل المدينة.
وتقول ابيتيله “جئت إلى هنا قبل 7 سنوات بعد أن طردني غلاء الإيجار والخوف على الأطفال من طبيعة الحياة في المدينة، فقررنا التوجه إلى هذا المكان رغم قساوة ظروف العيش فيه إلا أن المنطقة هنا مختلفة تماما”.
وأوضحت ابيتيله “قّلت الأمراض وخفّت ضغوط الحياة، واستعدت عافيتي ولم أعد أخاف صاحب الإيجار كما أن المنطقة أكثر أمنا، بتنا ننام وقتما نشاء وفي أي مكان، وأصبحت مطمأنة على الفتيات،على عكس المدينة التي كنا نخاف الخروج فيها خصوصا في ساعات الليل”، مضيفة “أعرف أنني فقدت الكثير إلا أنني استفدت أيضا كثيرا”.
“المدينة أقل أمانا وأكثر صعوبة في العيش”
رغم رفاهيتها إلا أن المدينة، بحسب ابيتيله، أقل أمانا وأكثر صعوبة في العيش مقارنة مع الريف خصوصا مع غياب المعيل “هنا طعامنا الرئيسي الأرز واللبن والأرز واللوبيا وأكل البقوليات حتى أن الأطفال يمكنهم أكل البسكويت و الاكتفاء بها طوال النهار .. هنا أيضا الأمن والأمان ننام ملئ أعيننا مرتاحي البال عكس المدينة حيث مطاردة أصحاب المتاجر والبقالات والمصاريف الزائدة. همي كامرأة لم يعد الاهتمام بحياة المدن والكماليات ليس طبعا بتقدمي في العمر بل إن قناعتي باتت هكذا”.
في الطريق تلتقي ابتيتيله برفيقات العمل اللواتي يسابقن أيضا الزمن دون أن تغفل أعينهن مرور إحدى السيارات أو عربات الحمير علها تقلهن وتخفف عنهن عبء الطريق. وتفضل النساء قطع المسافة بين منازلهن والحقول سيرا على الأقدام خوفا من الأمراض التي باتت منتشرة بين النساء الصحراويات اللواتي دأبن على الجلوس، فلم يعد التسمين “موضة صحراوية” فقد انتشرت الأمراض المتعلقة بزيادة الوزن وأًصبح الجميع يخاف على نفسه وصحته خصوصا في تلك الأماكن النائية شبه الخالية من الرعاية الطبية.
على مشارف الحقول ينتهي الكلام وتتسارع الخطوات كل في اتجاه مزرعته، فساعات توفر الماء قليلة. ورغم أشعة الشمس الحارقة سارعت ابيتيله لتعبر ممرات الحقول.
مشاكل الفلاحة في الصحراء
وفي داخل المزرعة الصغيرة، تحدثت ابيتيله عن الفلاحة ومشاكلها فقالت إن “الحقول منحة من الدولة، فبعد توزيع الأراضي الزراعية استفدنا من هذا التوزيع إلا أننا نعاني من انعدام البذور والأسمدة إضافة إلى قلة المياه، وقد طالبنا الدولة بمزيد من المساعدة خصوصا في النقل وتوفير المياه أو توزيعها على الأقل”.
وأضافت “أرسلت الدولة عدة بعثات من بينهم، مهندسون زراعيون أوصونا باستخدام أنواع من الأسمدة لعلها تحسن مستوى المنتوج إلا أن المردود الزراعي ظل ضئيلا يقتصر على الاستهلاك الشخصي وهو ما يعقد ظروف المعيشة غير أن حياتنا تظل أكثر استقرارا”.
تواصل ابيتيله حديثها، وهي تعمل جاهدة في حقلها المتواضع ففي أية لحظة يمكن قطع الماء عن الحقل مما يعني خسارة بعض المنتوج الزراعي، ولكن ذلك لم يمنعها من تبادل أطراف الحديث مع جيرانها من المزارعين عن أنواع السماد الجديدة والمبيدات الحشرية ونزع الأعشاب الضارة.
وتحتاج كل حفرة تحتاج كمية معتبرة من السماد ومزيد من العمل الشاق لا يمكن لابيتيله القيام به إلا ساعة وجود أطفالها في المدارس بمدينة انواذيبو.
وتقول ابيتيله “في العام الماضي كان المحصول كبيرا وبعنا منه الكثير خصوصا البطاطا والبصل والقزبور مما وفر لنا مالا ساعدني على مصاريف الدراسة إلا أن المحصول هذا العام ضعيف جدا نتيجة عدة عوامل كضعف البذور وشدة البرودة التي لا يمكن لبعض النباتات مقاومتها”.
تغادر ابيتيله الحقل، فتعبر الكثبان عائدة إلى كوخها في بلدة بولنوار حاملة ما جاد به عليها الحقل من محصول قد يساعدها على الأقل في إعداد وجبة غداء.
حياة سعدت بها ابيتيله وقبلت أن تعيشها في مكان ربما كثير من النساء لا يرغبن أن يعشن فيه وهو ما يظهر من حال رفيقاتها في الحقول اللواتي يعشن نفس الظروف تقريبا إلا أنهن يختلفن عنها على الأقل من ناحية وجود معيل أسري يساعدهن على التخفيف من مشاكل الحياة.
تركت ابيتيله رفاهية الحياة واعتبرتها عبئا عليها وعلى صحتها، فبات قلبها معلقا بالمنطقة رغم قسوة ظروف الحياة في الصحراء، ولكنها تنظر إلى الحياة من جانب آخر فشكلت عالمها الخاص وحاولت التأقلم مع المكان راضية بما جادت به الحياة عليها.
أحمد كركوب
أصوات الكثبان