كنت أعتقد أن الصمت سيخفف من لواعج الأسى والألم لقلبي الجريح ، وأنني سأتمكن من الهروب من مساحة الحزن الكثيفة التي بسطت ظلالها علي ، إثر رحيل نابغة الدهروموسوعة العصر شيخنا ولد ابي ، لكن هول الخطب كان أعظم لأن"مَوْت الْأَخِ قَصُّ للْجَنَاحِ" كما يقال
الحزن يقلق والتجمل يردع والدمع بينهما عصي طيع
يتنازعان دموع عين مسهد هذا يجيء بها وهذا يرجع
غير أن أخي ولله الحمد كان شهيد غربة وجمعة فقد روي ( عَنْ وهب ابْن مُنَبَّهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْتُ الرَّجُلِ فِي الْغُرْبَةِ شَهَادَةٌ وَإِذَا احْتَضَرَ فَرَمَى بِبَصَرِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا غَرِيبًا وَذَكَرَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ فَتَنَفَّسَ فَلَهُ بِكُلِّ نَفَسٍ يَتَنَفَّسُ بِهِ يَمْحُو اللَّهُ عَنْهُ أَلْفَيْ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَيَكْتُبُ لَهُ ألفى ألفي حَسَنَةٍ وَيُطْبَعُ بِطَابَعِ الشُّهَدَاءِ إِذَا خَرَجَتْ نَفْسُهُ )
و(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ )
و(أيَّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ اثْنَانِ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ) ومعلوم أن فقيدنا شهد له الومنون في مشارق الارض ومغاربها بالتقوي والورع والاستقامة ،وهذا يعني أنه قد عاش بحمد الله في الدنيا مأموناً، وأفضى إلى الآخرة شهيداً، والخبر إذا تواتر به النقل قبله العقل .
وبما أنه لا شرف أعزمن الإسلام، ولا كرم أعلى من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة ، فقد استوعب فقيدنا مبكرا أن " أيامكم صحائف أعمالكم، فخلدوها أحسن أعمالكم "، فكان رحمه الله متمسكا بكتاب الله ويرتله آناء الليل وأطراف النهار ، ويعض على السنة النبوية بالنواجذ ،على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، ومستعدا ليوم القيامة ، وكان يخشى الله ويخاف من بطشه ويطمع في كرمه ، ويعتبر أن ألأساس في كل عمل هوالاخلاص لله تعالى ، والاستقامة والدوام على فعل الخير،والاعتماد على الله ، وكان رحمه الله حمامة مسجد ، ويحرص على مجالسة الأولياء والعلماء والصالحين ، وكان منفقا في سبيل الله ، ورحيما بالضعفاء .
أيا قمر المكارم والمعالي أبن لي كيف عاجلك الأفول
بكاك الدين والدنيا جميعا وأهلهما كما يبكي الحمول
ومع هذا كان فقيدنا رحمه الله رمزا وطنيا ميدانيا، وعربيا أصيلا دافع بقوةعن لغة القرآن الكريم ، والحضارة العربية الإسلامية ، وخلد اسمه في ساحات الشرف ، حتى كأنه لم يغب كما يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي : " ..قليل من الأحياء يعيشون وخير الموت ألا يغيب المفقود وشر الحياة الموت في مقبرة الوجود.. " .
كذلك فإن الفقيد رحمه الله كان يتمتع بأخلاق حميدة وارتقاء بالنفس ، ومهتما إلى حد كبير بالمصالح العامة للبلد ولمجتمعه الخاص ، ويحرص دائما على دفع المبالغ النقدية في النائبات ، ويقدم الأفكار التي تؤدي إلى الرفع من حصة الفقراء والمساكين والمريض .
وقد أيد ذلك أن هذه الفضائل والخصال ورثها من آبائه وأشياخه وهو ما يعني قوة البنوّة واستحضارالقدوة بل إن "هذا الشبل من ذاك الأسد " الذي هو الشيخ أحمد الأمين ولد ابي صاحب المناقب الجمة وشَوَاهِد الْمجد الخالدة وكافة أعلام السؤدد التي تدل على فضائله وفواضله ، فهو الألمعي المشهود له بقوة الإدراك، الذي لا يهاب سلطانًا في الحق، استقبله ملك المغرب محمد الخامس عندما كان عضوا في حزب النهضة في الوقت الذي كانت فيه قيادات هذا الحزب تسعى لمقابلة هذا الملك ولو بعد حين .
بعد ذلك أصبح هذا الشيخ أحد أعيان حضرة أهل الشيخ أحمد أبي المعالي في وقت وجيز لشدة صدقه وإخلاصه ومثابرته وعبادته .
ومع ذلك فقد نهض هذا الشيخ بشؤون مجتمعه ، وأصبح يمثله في المنتديات المحلية والاجتماعية ، وكان قوي الشكيمة، عزيز المنال صادقا جسورا ،جامعًا حافظا، ثقة، عدلاً.، ثبتًا ، قرة عين جده المختار بن حبيب "أبانحمد " الذي تنمى إليه تلك الفصيلة الحميدة التي ذاع صيتها في كل الميادين.
وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ ... دليلٌ على أن لا يدوم خليل
تركا وراءهما فراغا كبيرا ، لكن تاريخهما المجيد بقى خالدا فجزاهما الله عنا خيرا وأسكنهما فسيح جناته مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم .