كانت الأميرة تيبه سيدة قوم يستحقونها، يأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها! ولها مناقب تفوق مناقب جحا بكثير، ولا غرو! فجحا رجل من الشعب. وتيبة أميرة!
ومن عقليات وحِكَمِ تيبه المأثورة، أنها كانت تعاقب الغربان إذا دخلت خيمتها المحروسة، بإحكام غلق حظيرة الغنم عليها.. وتخاطبها بتحد كبير وثقة في النفس وفي سلاح الردع: "طيروا اصَّ"!
تذكرت هذه السيرة العطرة مساء الأربعاء في مطار أم التونسي عندما جاءت هيئة الدفاع عن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لوداعه، فرفض حراس المطار والقائمون عليه أيما رفض السماح لنا بدخول المطار، وكأننا عصابة أشرار مشهورة! ثم ما لبثوا أن طلبوا منا الابتعاد عن بوابة المطار.. ثم الانصراف!
رفضنا طبعا، وأخذنا نحاول بجميع أنواع التدخلات والوساطات أن يسمح لنا بالدخول، فكان ذلك من سابع المستحيلات. قال بعضنا إننا قد أخطأنا القصد ودخلنا من المدخل الخطأ! وإنه كان علينا أن ندخل من "أبواب متفرقة" كما دخل أبناء يعقوب.. وبـ"طرائق قدد" أيضا! وقد أقسمت بالله لقادة الأمن أثناء محاولاتنا بأن زملائي رجال قانون مسالمون، ومواطنون مخلصون، وأن لا أحد منهم يحمل قنبلة في جيبه، أو يخفي تحت عباءته رشاشا! فلم يقتنعوا!
وكان الرئيس الموجود في قاعة الركاب يسعى من جهته لحل المعضلة! وعندما تأكدنا من فشل جميع محاولاتنا، أردنا أن نوثق ذلك، فالتقطنا صورة تذكارية أمام المطار، فكانت الطامة الكبرى! أعلن النفير، والتعبئة العامة! لقد اعتدى كوماندوز من المحامين على أرض الوطن واحتلوا جانبا من مطار أم التونسي وعاثوا فسادا في الأرض، وجاؤوا شيئا إدا {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا}! ولما استتب لهم الأمر، أرغموا الزميل الذي أخذ الصورة على محوها دون أن أنتبه! وقد فعل ذلك حماية للهاتف من المصادرة حسب ما قال لنا! ووضعونا تحت "المراقبة المشددة"!
وفي هذه الأثناء روى لهم الأستاذ اباه ولد امبارك رحلته الأخيرة من مطار أم التونسي صحبة نقيب المحامين متوجهين إلى دكار في إطار برنامج تبادل خبرات ممول من طرف الاتحاد الأوروبي، وكيف حضر لوداعهما ممثلون عن الاتحاد الأوروبي، ووسائل إعلام. وكان من المقرر أن يدلي النقيب بتصريح عن المهمة لوسائل الإعلام، فتدخل الدرك ومنعهم من الإدلاء بأي تصريح أو التقاط صور أمام المطار! وعندما وصلوا إلى مطار داكار استقبلتهم هيئة المحامين السنغاليين والصحافة داخل المطار فصرحوا بما يحلوا لهم، والتقطوا ما يشاؤون من الصور دون رقيب أو عتيد! وأراهم الصور في هاتفه!
وحين علم الأشاوس أن الرئيس قرر مغادرة قاعة الركاب والالتحاق بنا، بدؤوا يتوددون إلي ويطلبون مني بإلحاح ويتوسلون لي أن يجري الوداع بسلام.. أي أن لا نأخذ صورة مع الرئيس أمام المطار! وقالوا لي من بين ما قالوه نحن لسنا إلا مأمورين، وأنتم تعلمون أن زملاءنا تم تحويلهم تعسفا إلى أقصى معامر الأرض بسبب صورة! فلا تخربوا بيوتنا! وقد أشفقت عليهم فعلا!
ونزل الرئيس وخرج إلينا من المطار وتعانقنا بحرارة. ولم نأخذ معه إلا صورة ناصعة حفرت في أعماق قلوبنا إلى الأبد!
وقفلنا راجعين!
استعدت شريط الأحداث، وسألت نفسي لما ذا يعيش الناس أحرارا في معظم أصقاع الدنيا، وتكبت حريتنا نحن إلى هذا الحد؟ أنا أفهم أن أخذ صورة تذكارية فخمة للرئيس السابق بين كوكبة دفاعه في قاعة الركاب وهو على جناح السفر إلى فضاءات حرة بعد ما عاناه من ظلم واضطهاد على أيدي أعوانه وصنائعه أمر محرج جدا، وقد يغيظ بعض الناس ويؤوَّل أيما تأويل!
أما أن يلتقط محامون صورة خارج مطار عاصمة بلادهم، فلا أعتقد أن في ذلك حرج، أو يوجد أدنى مسوغ لمنعه سوى الإمعان في انتهاك الحريات ودوس القانون واحتقار المواطن والوطن.. والبلادة والتخلف أيضا!
ثم إنه في هذا العهد، عهد الثورة التكنولوجية والطفرة الإعلامية الرقمية لم يعد بالإمكان إخفاء شيء، أو التعتيم على شيء، أو التحكم في شيء إلا كما تتحكم تيبه في الغربان بإحكام غلق حظيرة الغنم عليها! وأكبر دليل على ذلك هو أنني لما ذكرت ما حدث وتأسفت على محو الصورة قال لي أحدهم يوجد تطبيق لاسترجاعها، واسترجعها لي قبل أن يرتد إلي طرفي. وها هي ذي تتصدر هذا المقال!
فمتى نستفيق من سباتنا، ونخرج من بياتنا السرمدي؟
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو