خلال إشرافه على تخرج الدفعة الأكبر في تاريخ المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء؛ أبان فخامة رئيس الجمهورية عن منعطف جديد في الحياة العامة للبلد؛ وكشف عن اختلالات كبيرة في مفاصل الدولة، وضرب أمثلة حية ليست حصرية لكنها كانت نقاط استفحل فيها الخلل وطغى انتشاره،
تحدث فخامة رئيس الجمهورية بمنتهى الصراحة والمكاشفة وهي سمة ظهرت في خطاباته ولقاءاته مع المواطنين داخل البلاد وخارجها؛ وكأنه يستحضر قصة الرشيد مع أبيات عمر بن أبي ربيعة عندما أنشده إياها أبو العود بعد أن ماطله وزير الرشيد البرمكي في أعطية عهد له الرشيد بها، وترتبت على ذلك فيما بعد نكبة البرامكة..
ليت هندا أنجزتنا ما تعد # وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة # إنما العاجز من لا يستبد
طبعا هناك أمور لا يجدي معها سوى الاستبداد، والمقصود الاستبداد بالعدل، والاستبداد معروف أنه هو حكم الحاكم بأمره؛ وتصرفه بصورة مطلقة، وكون أمره نافذا غير قابل للمماطلة أو التعطيل أو الاعتراض، فالاستبداد في العدل هو النذير الرادع لدحر الظلم والتعدي على الغير.
فهارون الرشيد عندما تتبع أموال بيت المال وجد أن البرامكة قد استهلكوه وعم فسادهم، فجعل يهم بأخذهم تارة ويحجم أخرى حتى سمر عنده أبو العود الذي تقدم ذكره فأطلق له الرشيد ثلاثين ألف درهم وماطله يحي بن خالد بن برمك بها مدة طويلة، ولما أتيح له السمر مرة أخرى بالرشيد أنشده البيتين المذكورين، فجعل الرشيد يكررها حتى أصبح؛ وهو المعروف بحكمته وعدله، فلما دخل عليه وزيره يحي أنشده الأبيات وهو يستحسنها ففهم ذلك يحي وتقصى خبر من أنشدها للرشيد، ومع أنه بعث إليه وأجزل له العطاء فإن ذلك لم يمنع من نفاذ قرار الرشيد الذي عزم عليه تلافيا لمسؤولياته وقوامة لدولته الحاكمة على الأرض حينها، والتي كانت تنتظر حقها من خراج أي مزنة تنزل من السماء على الأرض في أي بقعة نزلت.
لقد قضى الرشيد بذلك على عصبية البرامكة وأنهى بطشهم وهدرهم لبيت المال، أما برامكة اليوم فعصبيتهم الجامعة هي جمع المال من روافد الشبه وإفساده في ظرف يتضور فيه أغلب المواطنين جوعا ويتفنن فيه التجار في رفع الأسعار وخنق البسطاء.
عندما نعود إلى فحوى خطاب الرئيس أو كلمته أمام هذه الطاقات الشابة من الخريجين في مجالات شتى؛ ونتوقف عند بعض المضامين فإننا سندرك أن السيل بلغ الزبى وتجاوز الربى
عندما ضرب فخامة الرئيس المثل بما يصل إلى الرئاسة من أمور كان يمكن حلها ببساطة في المرفق المعني؛ فإنه يعاتب بلطف، لكن كثيرا من مسؤولينا لا يتعظون إلا مع خشونة التصرف الذي يكون أبسطه العزل و الإقالة.
تحدث الرئيس بصراحة عما يحدث في مجال العقارات من فوضى وما يصاحب ذلك من تشابك التداخلات وتعدد للمنح، وهي أمور لن تنتهي دون تغليظ العقوبة على رعاتها من النافذين المدمنين عليها منذ عقود؛ والذين نبتت أوداجهم من سلب المواطنين ممتلكاتهم بظاهر بيع يخفي كل المشاكل والتيهان في أروقة المحاكم بحثا عن الخلاص.
وعن الضرائب والشبهات حول تقديرها أصلا وتراكمها حتى تصل حد التعجيز؛ يمكن القول أن هناك من هم فوق دفع الضريبة لسطوتهم واستعلائهم على النظام العام، وهو ما يستدعي بسط سيف العدالة فوق رقابهم قبل غيرهم من بسطاء المواطنين.
ضرب رئيس الجمهورية مثالا لسوء الخدمات والتسيير بشركتي الماء والكهرباء، وعدد من ذلك الانقطاعات المتكررة وإذلال المواطن بترصد الأوقات الحرجة للضغط عليه، ونزيدكم إحاطة؛ يا سيادة الرئيس أن أصواتا ارتفعت في الشهر الماضي ذاكرة ارتفاعا ملحوظا في الفواتير مع ثبات استهلاكها على ما كان عليه في السابق، وهو ما يستدعي البحث والتدقيق؛
أما عن شركة الكهرباء تحديدا فالكارثة الكبرى أن هناك سماسرة كثر ينشطون في الأحياء الشعبية تغطي أسلاكهم المتناثرة والخطرة على سلامة المواطن مساحات كبيرة وتغذي بيوت كثيرة ويذهب ريعها إلى جيوب هؤلاء برعاية متنفذين معهم في ذات المجال طبعا؛ فلا وجود للص ميداني أو مخرب صغير إلا وله رأس كبير هو الذي يرعى تصرفه القذر ويحوز منه النصيب الأكبر!.
وعن الوثائق المؤمنة وما أدريك ما الوثائق المؤمنة؛ تحدث الرئيس عن صعوبة حصول المواطن على مستخرج أو أي وثيقة أخرى وحتى تسجيل أخرى؛ وهي حقائق يعيشها الجميع ويكتوي بنارها، ويزاد عليها أن الرشوة الخفية أصبحت هي المفتاح الأوحد للتسجيل أو استصدار أي وثيقة ذات أهمية، وهناك وسائل ضغط ناعمة كثيرة وهندسة غريبة من أجل استدرار جيوب المواطنين البسطاء تتمثل في تأخير المصادقة على أي وثيقة والحجج لا تعد ولا تحصى؛ والتعطيل بأي إجراء شكلي حتى يطول الزمن بالشخص ويعيش تحت ضغط التفاهم الذي سيكون قناة التنسيق معه أو إخباره به هو العامل البسيط ( بلانتوه، أو البواب) وطبعا هذا الأخير لن يكذب على رئيسه في إيصال رسائل مفادها أن الملف انتهى وعليك تأدية الواجب! (عدل معان حالة)، وهذه الحالات يمكن الوقوف عليها بسهولة في انواكشوط وانواذيبو وقد تكون صورها حية في بعض مناطق الداخل أيضا.
حتى قطاع العدالة لم يسلم هو الآخر فهناك عمال يتولون جمع الملفات وترتيبها وإعطاء أوصال عليها، كثيرا ما لا يرتب أغلبهم الملف أصلا بطريقة سليمة إلا بعد الدفع المسبق وقد أصبحت (عشرينهم وعشرايتهم) واجبة؛ وهم حاجز منيع يقف دون وصول المواطن غير المتعلم إلى حيث يمكنه الحصول على وثائقه، ويؤكد بعض الموظفين ممن هم أعلى من هؤلاء أن المسؤولين الأول كالقضاة والوكلاء لا علم لهم بهذه التجاوزات؛ وإن كان الأمر كذلك فهل تبرأ ذمتهم بعدم علمهم وهم المراد منهم الاطلاع على كل شيء وإصلاح كل شيء؟.
وليس بعيدا عن كل ما تقدم فإن الإعلان اختفاء ثلاثمائة سيارة حكومية في طرف تعيش فيه أغلب الإدارات عدم وجود سيارات للخدمة رغم أحقيتها بذلك؛ يشي بأن هناك خللا جسيما ويؤكد أن ما خفي أعظم، ويزيد ذلك تأكيدا صدور تقرير محكمة الحسابات الذي أبان هو الآخر عن خرقات فاضحة؛ يدركها الصبي ويستوعب خللها الغبي، سواء كان ذلك في الاقتناءات أو التعويض والمخصصات!!
ختم الرئيس كلمته بأن على من لا يقدر على خدمة المواطن أن يترك مكانه لغيره، وطبعا نحن بحاجة إلى آلة إصلاح جديدة قوية وفعالة؛ تزيل الأورام الخبيثة وتعيد سفينة الحياة إلى طبيعتها وتعيد للمواطن الثقة في بلاده؛ ولا تترك الموظف الفاسد حتى يقرر أو يختار