كان الزمان أواخر شهر مايو سنة 1968، أما المكان فمدينة كيفه عاصمة ولاية لعصابه.
كانت موريتانيا يومئذ صبية في سن التمدرس، وإن كان عرفها يمنع تمدرس الأطفال الذكور وأحرى البنات! وهي تحافظ على "عرفها" و"جدائلها"! ومع ذلك، ورغمه، فقد سطرت في سجلها الذهبي قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أمريكا وبريطانيا، وطرد سفير أمريكا وأعوانه من أرضها غداة نكسة حزيران!
كنت في شبه إقامة جبرية وظيفية في تلك المدينة النائية جدا، والمعزولة جدا. لم تكن توجد يومها طرق معبدة في عموم موريتانيا! وكان الوصول إلى كيفه من انواكشوط عبر أسهل الطرق المؤدية إليها يستغرق ثلاثة أيام بلياليها، مرورا بروصو وبوگى وكيهيدي وامبود، وفي الشاحنات الكبيرة التي يكثر تعثرها وغوصها في الوحل والرمال، وتعطلها أيضا! وتنحصر وسائل الاتصال غير المباشر بالداخل آنذاك في وسيلتين هما الإذاعة الوطنية التي نادرا ما تجاوزت "أعلاب" إديني الشاهقة، وخدمات البريد والبرق التي تسيطر عليها الدولة! وكان أزيد من 90% من سكان موريتانيا حينها بدوا رحلا، أو مزارعين في الأرياف، لا وعي لديهم بواقعهم الأليم المزري، وبما يجري من حولهم في العالم الذي أصبحوا جزءا منه رغم أنوفهم! ولم تكن توجد إعدادية واحدة في الولاية كلها!
وكنا معشر الموظفين ثلة ترفل في أرغد عيش رغم أن رواتبنا لا تتجاوز عشرة آلاف أوقية؛ ولكن لا نصيب فيها لخدمات الماء والكهرباء لعدم وجودها أصلا، ولتوفر خدمات "مؤسستي" احمار لگرب (حمار القرب) والغندير (القنديل) بأسعار رخيصة جدا. وكان الإيجار رخيصا أيضا، وكذلك اللحم والحليب و"الزرع" إذ البقرة بألفي أوقية، والشاة بثلاثمائة، ولم أعد أتذكر بالضبط ثمن "المد" (4 كغ) ولكنه كان زهيدا لا يتجاوز 20 أوقية!
أما مدينة كيفه فكانت في حدود القديمة والجديدة التي تنتهي شرقا في اغليگ ولد سلمه. وبها نخبة من التجار والموظفين لا تتجاوز عدد أصابع اليدين بكثير! وفيها عناصر قليلة من الشباب من صغار الموظفين وصغار التجار والعاطلين تتواصل مع القوميين العرب في انواكشوط وازويرات، ومع المعلمين وطلاب الثانوية في العيون، وتتكلم في السياسة وتؤيد جمالا وتعارض المختار!
كانت نكسة حزيران قد طحنت الأمة التي بدأت تصحو من هولها بالكاد، وتتابع بحماس منقطع النظير معارك حرب الاستنزاف دقيقة بدقيقة!
وفجأة حدثت مذبحة ازويرات دون سابق إنذار، فعرّت الاستعمار الجديد، وتركت بصماتها في التاريخ!
كانت وسائل التسلية في كيفه محدودة جدا؛ إذ لا تتجاوز لعب الورق ومونوبولي وارتياد مجالس الشاي! وفي هذا المحيط الضيق زرت منزل أحد الأصدقاء مساء فوجدت عنده ضيوفا من ولاية الحوض الشرقي: أمير وإداري من عائلة أهل لمحيميد يدعى "ببكرن" متوجه إلى مقر عمله، ترافقه زوجته الأميرة.
كانت الأميرة التي لم أعد أتذكر اسمها بارعة الجمال، كأنها لؤلؤة برزت من محارها، أو وردة تفتقت أكمامها في الندى، رغم نضجها وتجاوزها العقد الثالث من عمرها؛ وهي كما وصفها كعب بن زهير قبل وجودها بأربعة عشر قرنا:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ** لا يشتكى قصر منها ولا طول.
لم يكن مجتمعنا البدوي الطاهر المفتوح قد تعقد بعدُ، أو علقت به بعض الشوائب الدخيلة! فجلسنا جميعا نتناول الشاي ونتجاذب أطراف الحديث، وكانت مذبحة ازويرات هي حديث الساعة؛ فطفق أحدنا يروي تفاصيلها الأليمة. وما إن وصل إلى سقوط قتلى وجرحى من العمال حتى انفجرت الأميرة تبكي بحرقة وتولول وتسب وتشتم الدولة التي تقتل مواطنيها، بدل أن توفر لهم الحماية والعيش الكريم! انقلب سمرنا فجأة إلى مأتم، وتعكر جو مجلسنا، وبلغ الأمير والإداري حدا لا يوصف من الإحراج، فأخذ يهدئ زوجته تهدئة لا تخلو من تعنيف وتأنيب، فقال من ضمن ما قال: ""يخلي أهلك انت مجنونة! تبكي على مدَّ ماهم أولاد عمك"! كان كلامه منطقيا ووجيها بمنطق العقلية السائد آنذاك! ولكن كم كانت مفاجأتنا كبيرة حين صرخت تلك الأميرة البدوية في وجه زوجها الأمير والإداري الوقور، وكأنها لبؤة كاسرة سيم أشبالها خسفا وهي تقول: "أهل موريتاني كاملين أولاد عم"! فبهتنا جميعا! لقد كان منطق الأميرة أرقى وأشمل وأقوم مما لدينا جميعا! فلقد لقنتنا في تلك الليلة أميرة من الحوض درسا في الوطنية لا ينسى أبدا! وكان له أثره العميق في نفسي خلال جميع مراحل حياتي! وها هي ذي تنساب أمامي تلك اللحظات، ويجري شريط ذكرياتها أمام عيني، وتتردد أصداء كلمات الأميرة في مسمعي، وأنا أصغي خاشعا إلى سرد السيد مولاي إسماعيل ولد المرتجي نبأ وقوفه على جثث 44 مواطنا موريتانيا قتلوا بدم بارد بأيدي جيش دولة مجاورة، دون أن تنبس دولتنا بشطر كلمة نعي أو أسى أو أسف، أحرى أن تعلن الحداد عليهم وتقرع طبول النفير والثأر!
ثم تذكرتها مرة أخرى وأنأ أصغي في ذهول إلى عويل واستغاثة أميرة حوضية أخرى تندب رجالنا الذين ذهبوا "باطلا" في شسع نعل كليب! فلا أجد لها جوابا في غير هذين البيتين العتيقين:
رب وامعتصماه انطلقت ** ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعكم لكنها ** لم تلامس نخوة المعتصم.
بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو