عاد جدل السيارات الذاتية القيادة ليطفو من جديد على السطح بعد أن كشفت العديد من التجارب الأولية أنها قد لا تكون أكثر أمانًا مثلما يدّعي مصنّعوها، بل تبيّن أنها قد تجعل حركة المرور أسوأ.
ففي تقرير نشرته صحة "واشنطن بوست" (washingtonpost) الأميركية، قال الكاتب ديفيد زيبر إن التوقعات المتقلبة بشأن صناعة السيارات الذاتية القيادة تركت المستثمرين والمتحمسين لهذه التكنولوجيا في حالة من الإحباط.
ففي عام 2016، أعلنت شركة "فورد" (Ford) طرح سيارات أجرة ذاتية القيادة بحلول عام 2021، وأعلنت شركة "لايفت" (Lyft) استئناف برنامج لصنع سيارة ذاتية القيادة، لكن هذه الشركات لم تف بوعودها.
وفي معرض الإلكترونيات الاستهلاكية الذي نُظم في يناير/كانون الثاني، وعدت شركة "جنرال موتورز" (General Motors) وشركة "جيلي" (Geely) الصينية لصناعة السيارات وشركة تطوير السيارات الذاتية القيادة "موبيل آي" (Mobileye) المستهلكين بأنهم سيكونون قادرين على شراء سياراتهم الذاتية القيادة بحلول عام 2024.
وفي الوقت الحالي، لا توجد سيارات ذاتية القيادة متاحة للشراء هذا العام (حتى لو وصفت تسلا "على نحو مضلل" -وفقا للصحيفة- نظام المساعدة للسائق الذي ابتكرته "بالقيادة الذاتية الكاملة").
هل استخدام المركبات الذاتية القيادة بشكل جماعي خطر على المجتمع؟ وما الهدف منها؟
على الرغم من استثمار أكثر من 100 مليار دولار في السيارات الذاتية القيادة على مدى العقد الماضي، فإن كثيرا من الشكوك ما زالت تحوم حولها.
وعلى غرار السيارات، لم تنشأ المركبات الذاتية القيادة من الحاجة إليها، إنما نتيجة الفرص التكنولوجية. يعتقد فيل كوبمان، أستاذ الهندسة في "جامعة كارنيجي ميلون" (Carnegie Mellon University)، أن ابتكار السيارات الذاتية القيادة لم يكن بهدف حلّ بعض المشاكل الاجتماعية. وقد احتدمت المنافسة على صنع سيارة ذاتية القيادة بين الشركات الخاصة، وذلك رغم غياب سبب واضح لوجودها.
غوغل والوعد المضلل
وفي عام 2007 عينت شركة "غوغل" (Google) سيباستيان ثرون، قائد فريق ستانفورد، لإطلاق مبادرة جديدة للسيارة الذاتية القيادة التي ستشكل لاحقًا أساس الشركة المعروفة باسم "وايمو" (Waymo). وتخطط غوغل لنشر تقنيتها على الطرق العامة مدّعية أن الهدف الأساسي من تصنيع السيارات الذاتية القيادة هو ضمان السلامة.
وفي مدونة نشرتها في عام 2010، سلطت الشركة الضوء على 1.2 مليون وفاة سنوية ناجمة عن الحوادث المرورية في جميع أنحاء العالم، مشيرة إلى أنها تعتقد أن سيارتها ستكون قادرة على خفض هذا الرقم الهائل، ربما بمقدار النصف. وقد حظيت هذه الرؤية بترحيب واسع، وهو ما دفع بعض الشركات إلى النسج على خطى غوغل والتعلل بالسلامة على أنها سبب ابتكار سياراتها الذاتية القيادة.
نشرت الإدارة الوطنية لسلامة المرور في الولايات المتحدة مذكرة تفيد بأن الخطأ البشري (إلى جانب عوامل أخرى، مثل هندسة الطرق السيئة أو تصميم السيارات الخطير) يعد السبب الرئيس في 94% من حوادث التصادم المرورية. وإدراكًا للمكاسب المتأتية من هذه الصناعة، وضعت شركات صناعة السيارات الذاتية القيادة هذا الرقم نصب أعينها أثناء التسويق لمنتجاتها.
تدّعي هذه الشركات أن السيارات الذاتية القيادة ستُقلل من الحوادث الناتجة عن القيادة في حالة السكر أو النعاس، بيد أن ثغرات نظام التعلم الآلي لتلك السيارات ستؤدي حتمًا إلى أخطاء لا يرتكبها السائقون البشريون. ويؤكد فيل كوبمان أن نظام القيادة الذاتية قبل بضع سنوات كان غير قادر على تمييز اللون الأصفر.
ويعتقد كوبمان أن الجدل المتعلق بالسلامة مبالغ فيه لأنه "لا يوجد دليل إذا كانت المركبات الذاتية القيادة ستكون أكثر أمانًا من السائقين البشر على المدى القصير إلى المتوسط"، مشيرا إلى أن "تقنية التعلم الآلي لا تزال تعاني كثيرا من أوجه القصور لا سيما عندما تعترض طريقها أجسام غير مألوفة لديها".
أخطاء السيارات الذاتية القيادة مميتة
كشفت التجارب الأولية أن الأخطاء التي ترتكبها السيارات الذاتية القيادة تكون مميتة؛ فقد صدم نموذج أولي لشركة "أوبر" (Uber) السيدة إيلين هيرزبيرغ، وتسبب في قتلها عندما كانت بصدد عبور أحد الشوارع في أريزونا مع دراجتها في عام 2018. وعلى إثر ذلك، علق حاكم ولاية أريزونا قدرة "أوبر" على اختبار مركبتها، وبعد سنتين، باعت الشركة سيارتها لإحدى الشركات الناشئة التي تعرف باسم "أورورا"(Aurora).
ويرى الكاتب أن ما يزيد الحجج المتعلقة بالسلامة تعقيدًا مسألة ما إذا كانت شركات السيارات ستصمم مركبات ذاتية القيادة لخرق قوانين المرور. وقد أجبرت الحكومة الفدرالية شركة "تسلا" على جمع جميع مركباتها بعد أن برمجتها بشكل متعمّد للتحرك ببطء خلال إشارات التوقف بدلًا من التوقف تمامًا.
وإذا كان الهدف هو ضمان سلامة الطريق، فهناك بالفعل كثير من التقنيات المتاحة التي يمكن لشركات صناعة السيارات الاستثمار فيها، بدلاً من السعي لابتكار سيارات ذاتية القيادة بالكامل؛ مثل أنظمة مساعدة السائق المتقدمة، والكبح التلقائي للفرامل في حالات الطوارئ والكشف عن المترجلين. وقد ثبت بالفعل أن مثل هذه الأنظمة ساعدت على إنقاذ الأرواح، لكن قدراتها تختلف اختلافا كبيرا من نموذج إلى آخر.
ويؤكد الكاتب أن بعض الفوائد المقترحة الأخرى للسيارات الذاتية القيادة مشكوك فيها. وفي ما يتعلق بتعزيز هذه المركبات إنتاجية الموظفين من خلال السماح لهم بتلقي مكالمات العمل وتقديم المذكرات وهم على الطريق، فإن هذه الفرضية تعد غير محتملة لا سيما أن إحدى الدراسات خلصت إلى أن سائقًا واحدًا فقط من بين كل 4 يريد العمل أثناء تنقله.
أما في ما يتعلق بمدى قدرة السيارات الذاتية القيادة على توسيع خيارات النقل لأولئك الذين يعانون من إعاقة بصرية أو حركية، فإن من المحتمل أن تكون هذه الفرضية قابلة للتطبيق في المناطق الريفية، ولكن في المدن والضواحي يمكن للناس استدعاء سيارة أجرة.
وتطرق الكاتب إلى حجة مفادها أن المركبات الذاتية القيادة يمكن أن تساعد في مكافحة تغيّر المناخ. وحسب تارا أندرينجا، المديرة التنفيذية لشركة "بارتنر فور تومايتد فييكل إديكيشين" (Partners for Automated Vehicle Education )، فإن "هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون قادرة على تحقيق الاستدامة إذا تأكدنا من أن المركبات الذاتية القيادة تحد من استخدام الوقود الأحفوري".
وحتى لو كانت السيارات الذاتية القيادة كهربائية، فإن تلك الأميال الإضافية التي ستقطعها لتجنب الازدحام المروري ستكون كارثية على البيئة. وسواء كانت تعمل بالبطاريات أو البنزين، فإن جميع السيارات تنتج انبعاثات، من غبار الفرامل إلى الاحتكاك بين الإطارات، كما أن تصنيع المركبات الكهربائية يؤدي إلى توسيع البصمة الكربونية.
وحسب الكاتب، فإن العالم إذا كان جادًّا في معالجة ظاهرة تغير المناخ، فإن تعزيز النقل العابر وركوب الدراجات بدلًا من القيادة يعدّ فعالًا أكثر من أي نوع من السيارات، سواء كانت ذاتية القيادة أو كهربائية أو غير ذلك.
وينبّه الكاتب إلى أن استخدام السيارات الذاتية القيادة سيكون أكثر خطورة في المدن. فمن دون فرض سياسة تقييدية مثل ضريبة الأميال التي تقطعها المركبات أو تسعير تخفيف الاكتظاظ، يمكن أن تصبح الشوارع المكتظة بالفعل غارقة في الازدحام، لا سيما إذا تجنب أصحاب السيارات الذاتية القيادة دفع رسوم وقوف السيارات عن طريق برمجة سياراتهم للتجول في الشوارع القريبة أثناء جلوسهم في أحد المطاعم.
ويضيف الكاتب أن المدافعين عن تكنولوجيا السيارات الذاتية القيادة لم يتوانوا عن استخدام المنافسة العالمية بين الصين والولايات المتحدة كحجة داعمة لهذه التكنولوجيا، وواصلوا الحث على سنّ تشريعات تحميها، لكن المنافسة العالمية وحدها تبدو كأنها مبرر غير كاف للسماح بالاستخدام المدني غير المقيد لتكنولوجيا يمكن أن تقلل من جودة الحياة.
وبالنظر إلى الخطر الذي تشكله السيارات الذاتية القيادة على المستقبل، ينبغي للمسؤولين الحكوميين مراقبة التطورات الجديدة التي تشهدها هذه التكنولوجيا بحذر، وأن يكونوا مستعدين للتدخل في أي وقت للدفاع عن المصلحة العامة.