بقلب كليم كقلب أم كليم الله موسى في مهده حين ألقته في اليم ، وأحزان كأحزان يعقوب على يوسف ، ونوبات أشبه بالغيبوبة والصرع قضت أم ريان أيامها في هلع وخوف وترقب وحسرة ودموع في انتظار معرفة مصير فلذة كبدها الذي سقط في بئر ، أو ثقب مائي جاف منذ يوم الثلاثاء الماضي ، أزيد من خمسة أيام عاشتها في كرب وغم وعناء ، كان الله في عون كل الأمهات.
قبل أن يتم التأكد مما إذا كان الطفل حيا أم لا بواسطة الكاميرات ، قالت أم ريان من أول لحظة بحسرة ولكن بثقة في الله وصبر جميل ورضى بكل ما قد يأتي به القدر : (أنا مصدومة لكن أملي في الله ) مضيفة بحدس الأمهات (قلبي يخبرني أيضا أن ابني على قيد الحياة).
أم ريان لم تعش محنتها لوحدها ، لقد حبس العرب أنفاسهم من المحيط إلى الخليج بقلق وترقب أيديهم على قلوبهم ، وهم يتابعون عملية إنقاذ الطفل "ريان" ، الملايين في المغرب والوطن العربي تمنوا نهاية سعيدة لمحنة هذا الطفل الذي لم يتجاوز عامه الخامس.
أزيد من خمسة أيام وفرق الإنقاذ تواصل كلل الليل بالنهار وتكافح للتغلب على صعوبة التربة المعقدة بوسائل إنقاذها وآلياتها ، العشرات من رجال الوقاية المدنية سابقوا الزمن ، والعديد من الخبراء التقنيين التبوغرافيين الذين يساعدون بدقة في تحديد مكان الطفل المحاصر في بئر جافة على عمق 32 متر ، و لا يتجاوز قطرها 45 سنتيمتر ، في قرية إغران بإقليم شفشاون في الشمال المغربي.
لقد فشلت قبل ذلك وفي اللحظات الأولى جهود العشرات من المستغورين (مكتشفي الكهوف) في الوصول إلى الطفل نظرا لضيق قطر البئر ، رغم محاولاتهم الجادة بل المستميتة إن لم نقل الانتحارية ، وكلهم كانوا متطوعين.
لقد كانت الصعوبات الجيولوجية المرتبطة بجبال الريف المغربي وتربتها المعقدة عقبة كأداء في وجه العملية ، وكذا عمق البئر مكان الحادث والذي لا تتوفر خريطة خاصة به ، فضلا عن الخوف من الانهيارات نتيجة أشغال الحفر في النفق الموازية بالآليات ، وما يمكن أن تشكله من خطر على سلامة البئر الذي يوجد بداخله ريان حسب الخبراء.
إن اللجوء في عملية الأمتار الأخيرة الحساسة لخبير محلي خشية الانهيارات يعكس أن التجربة والخبرة ما تزال مطلوبة رغم التقدم العلمي و التكنلوجي ، ولا زال سحر التجربة مغريا ولم يخفت بريقه رغم التهميش والإهمال.
إن جهود الانقاذ التي تمت في مجملها أشبه ما تكون بالمعجزة حيث تم إجراء عملية قيصرية دقيقة في باطن الأرض على عمق بعيد لإخراج الطفل المحاصر بعد كل هذه الأيام رغم عناد التربة وصعوبة المنطقة ، لكن شاءت إرادة الله أن لا تكتمل الفرحة.
على مدى أيام المحنة ولياليها تابع المغاربة بعيون جفاها الكرى وتعاطفوا ودونوا وتضرعوا لله كحال مختلف الأقطار العربية وذوي الضمائر الحية في العالم لنجاح العملية وإنقاذ الطفل.
إن الكلمات لا يمكن أن تعبر عن حزن العرب من محيطهم إلى خليجهم في وفاة هذا الطفل في غيابات الجب ، لقد تشاطروا الترقب والقلق ، وها هم يتشاطرون الحزن وأثبتوا أنهم ينشغلون ويتألمون ويحزنون معا وهم كالجسد الواحد .
لكأن ريان برحيله المفجع بمحنته أثكل كل الأمهات.
إن حزن العرب والعالم بأسره لا يساوي واحدا بالألف من حزن أم ريان على فقد فلذة كبدها في محنة تشيب لها الولدان ، لقد عاد إلى حضنها للمرة الأخيرة لكن لمجرد الوداع ، والأكيد أن طيفها كان أكبر سند له في محنته خلال الأيام التي قضاها حيا في أعماق حفرة البئر التي سقط فيها ف"وحدها الأم تجعل العالم واسعا حين يضيق" كما يقال.
كنت طوال المحنة أتسقط أخبار أم ريان أكثر من ريان نفسه عبر وكالات الاعلام الدولية لشعوري بعمق مأساتها ، ولمعرفتي أن الأم هي النسمة الأرق في هذا العالم الخشن.
ريان المغاربة والعرب لم يخذلوك وكلهم كانوا معك وخلفك ومستعدون ليفدوك بأرواحهم لكن الأمر من قبل ومن بعد لله.
في ذمة الله يا ريان.
لا تقلق ولا تبتئس وانعم والعب وامرح في فردوسك فمأساتك التي أبرز أسبابها الفقر والحرمان قد لا تتكرر لعائلة أخرى بفضلك.
ذكراك خالدة واسمك خالد .
محمد محمود إسلم عبد الله