فتحت شبكة الإنترنت منذ ظهورها آفاقا كبيرة أمام مستخدميها، لكنها تحوّلت تدريجيا إلى أداة للمراقبة والسيطرة بيد الأنظمة الاستبدادية عبر سرقة البيانات الشخصية وانتهاك الخصوصية الفردية ونشر الدعاية والمعلومات المضللة.
في تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، يرى الكاتبان أنتوني فينشي وناديا شادلو أن الكفة ستميل مجددا لفائدة المستخدم العادي في وجه قوى الاستبداد، مع اقتراب ظهور الجيل الثالث للويب، المعروف اختصارا بـ"ويب 3″ (Web3).
من أجل فهم هذا المصطلح، يجب العودة إلى الوراء. كان الجيل الأول للويب في تسعينيات القرن الماضي عبارة عن مواقع ثابتة تتكوّن من صفحات أحادية الاتجاه، اقترنت بانتشار البريد الإلكتروني على نطاق واسع.
لاحقا، برز الجيل الثاني للويب عندما أصبح الإنترنت تفاعليا، حيث أصبح بإمكان المستخدم تسجيل الدخول وإنشاء المحتوى الخاص به، وقدّمت "غوغل" (Google) و"فيسبوك" (Facebook) وغيرها من الشركات الكبرى خدمات "مجانية" مقابل الحصول على بيانات المستخدمين.
وعلى امتداد العقود اللاحقة، استمرت شبكة الإنترنت في التطور والنمو بأشكال أكثر تعقيدا، لكنها بقيت ضمن نطاق الجيل الثاني.
وفي الوقت الراهن، يشهد عالم الإنترنت صعود الجيل الثالث الذي يقوم أساسا على تقنية "البلوك تشين"، وهي تكنولوجيا تسمح بنقل البيانات بأمان تام، وإبرام ما يُعرف بالعقود الذكية التي لا تحتاج إلى وسطاء، وتُدفع فيها الأموال باستخدام العملة المشفرة من دون الحاجة إلى التعامل مع البنوك.
ووفق الكاتبين، فإن الجيل الثالث للويب ما يزال قيد التطوير، وليس له تعريف محدد إلى الآن، لكن الأمر الواضح هو أنه يقدم نسخة من الإنترنت تتسم باللامركزية.
ويتم حاليا إنشاء منصات جديدة يوميا تعمل على كسر هيمنة الأنظمة المركزية، بينها منصات لمشاركة مقاطع الفيديو لا تحتاج إلى قاعدة بيانات مركزية، عكس "يوتيوب" (Youtube) أو "تيك توك" (Tiktok)، ومنصات أخرى تقدم خيارات لامركزية للتخزين المشترك، مختلفة عن الخدمات السحابية المركزية.
وتعالج هذه الخدمات الجديدة عدة مشاكل موجودة حاليا، إذ من شأنها أن تحسن مستوى أمن المعلومات والبيانات بالنظر لعدم وجود قاعدة بيانات مركزية يمكن اختراقها، ويمكن للمستخدم أن يتحكم مباشرة في بياناته.
ثورة جديدة
يرى الكاتبان أن شبكة الإنترنت أحدثت ثورة في حياة الناس خلال السنوات الماضية، إذ لم يكن أحد يتصور قبل انتشارها أن مراهقا يستطيع أن يجمع ثروة من خلال نشر مقاطع فيديو مسلية على الشبكة، وبالمثل يمكن للجيل الثالث من الويب أن يُحدث ثورة مماثلة ويرجّح مجددا كفة المستخدم الفرد، وهو ما سيكون مفيدا للديمقراطية والولايات المتحدة، لسببين:
أولا، لا يمكن للدول الاستبدادية انتهاك الحياة الشخصية للأفراد، لأن الإنترنت هي المكان الذي يحتضن الأنشطة المناهضة للحكومات.
وقد أقامت بعض الدول مثل الصين وروسيا آليات للتجسس على البنية التحتية لإنترنت الجيل الثاني، وهي تتحكم بها من خلال برامج الحماية والرقابة على منصات التكنولوجيا، وسيكون تطبيق هذه الآليات الاستبدادية على إنترنت الجيل الثالث أكثر صعوبة.
ثانيا، رغم أن الولايات المتحدة ما زالت تهيمن على الجيل الثاني من نواح عديدة، فإن إطار العمل الحالي للويب يسمح للصين باكتساح مساحات كبيرة من البيانات لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي في المجالين السياسي والعسكري. ومن شأن الجيل الثالث، عبر ما يتيحه من خيارات لامركزية وإمكانيات لحماية المعلومات، أن يكسر الهيمنة الصينية على البيانات، وفقا للكاتبين.
يؤكد الكاتبان أن هناك مخاطر تحيط بالجيل الثالث للويب، حيث ستواجه سلطات إنفاذ القانون مواقع إلكترونية وشركات ومديرين تنفيذيين غير خاضعين للوائح التنظيمية، كما ستحتاج وكالات الاستخبارات إلى وسائل جديدة لمراقبة الإرهابيين.
مع ذلك، لا يجب -وفق الكاتبين- أن تخشى الولايات المتحدة من ظهور الجيل الثالث للويب، بل يجب أن تتكيف معه وتستثمر فيه وتروج له، لأنه سيكون مفيدا للدول الغربية التي تقدر الديمقراطية والخصوصية الشخصية.
ويختم الكاتبان بأن "الويب 3" يمكن أن يعيد الريادة إلى الغرب ويجبر الصين والدول الاستبدادية الأخرى على مواجهة نقاط ضعفها وتغيير سلوكها أو التخلف عن الركب.