الثقافة بالتعريف هي نقيض الحالة الطبيعية. يتم اكتسابها بفضل جهود و إرادة الفرد المهتم بها. فأن يصبح الشخص اليوم مثقفا، يعني ذلك تجاوزه للحالة الطبيعية، حيث كانت الحياة تتم وفق الأعراف و الأنماط السلوكية للمجموعة الأصلية، بغية البدء في عملية تعلم و نقد ذاتي متواصل يتسامى على الحيز المحلي إلى آفاق لا تعرف الحدود الجغرافية، إلى العالمية.
لا تصبح تجربة المران الشخصي هذه ممكنة إلا إذا كان الفرد مدفوعا بإرادة لا تزعزع لاكتشاف الآخر بجميع أبعاده: الاجتماعية، الثقافية، العلمية، الاقتصادية، إلخ. بيد أن هذه المعركة التي تتوخى فهم الآخر يجب أن تسبقها معركة أكثر أهمية، تلك التي تعمل على الإحاطة قدر المستطاع بالثقافة الذاتية في كل أبعادها، بما في ذلك لغة البلد الرئيسية.
لقد تَحَصَّلَ العديدُ من العرب و الأفارقة المتعلمين على لقب "مثقف" دون استحقاق، ذلك أنهم أهملوا ثقافاتهم الأصلية خلال الفترة الاستعمارية و بعد عهود الاستقلال. فَضَّل هؤلاء الاندماج في ثقافات لا تربطهم البتة صلة بها فتبنوا لغاتها و أنماط العيش و التفكير الخاصة بها مما سمح لهم، من جهة، بضمان الترقية المهنية السريعة، و من جهة أخرى بإحداث القطيعة، و لو مؤقتا، مع الثقافات المحلية المتهمة بأنها السبب الرئيسي في تخلف بلدان المنشأ.
بشكل مغاير، يُحَدَّدُ الشخصُ المثقفُ في أوروبا و آسيا و الأمريكيتين على أنه ذلك الإنسان الذي يهتم أولا بثقافته الأصلية و يتقن اللغة الأولى في بلده، مع العمل على اكتساب لغة دولية ثانية على الأقل، أو حتى لغة ثالثة كي يتمكن من التواصل مع الثقافات القريبة أو البعيدة.
في بلدنا، موريتانيا، يوجد صنفان متوازيان من الأشخاص الذين يوصفون بأنهم مثقفون.
بخصوص الأجيال التي تكونت باللغة الفرنسية قبل الاستقلال و بعده، فإن مواصفات الشخص المثقف تتمثل في إتقان لغة موليير (الفرنسية) و ارتداء الزي الغربي و اتباع نمط حياتي إلى حد ما "حديث" و يختلف جذريا مع النمط الحياة التقليدية للسكان. في الوقت الراهن، يعتبر الأشخاص الذين يمثلون هذه الفئة قلة قليلة. يتعلق الأمر بموظفين جلهم متقاعدون أو أطر يمارسون مهنا حرة: محامون، صحفيون، استشاريون، أطباء، خبراء، إلخ. هناك من هؤلاء من لا يزالون يعملون في الإدارة كأطر سامين أو موظفين، علاوة على من يدرس في مؤسسات عمومية أو خصوصية.
النموذج الآخر، و يشكل أغلبية، يتمثل في من يعتبرون "مثقفين" تكونوا باللغة العربية في المحاظر أو تخرجوا من التعليم النظامي الوطني أو درسوا في بعض الدول العربية. يوجد هؤلاء في القطاعين العمومي و الخصوصي، في الإدارة، التعليم، الصحافة، إلخ. يتميزون عموما بمهاراتهم الخطابية و قدرتهم العفوية على التوصيل. تأثيرهم على الجمهور أهم من تأثير أقرانهم الذين تكونوا بالفرنسية.
لأسباب متعدد، فإن المصنفين في المجموعة الأولى، و الذين ينتمون لكل المكونات السكانية في البلد، لا يبذلون جهدا كبيرا لتعلم اللغة الرئيسية في البلد، العربية، مع أن البعض منهم يعتز بها. لهذا السبب فإنهم يعيشون منعزلين و على هامش المجتمع.
أما بخصوص "المثقفين"، الذين ينحدرون هم أيضا من مختلف الأوساط و من مختلف مكونات المجتمع، فإنهم مشكلتهم الرئيسية تتمثل في أنهم يهملون تعلم لغة دولية ثانية تمكنهم من توسيع آفاقهم و فهم أفضل لما يدور في العالم. كذلك يعتقد هؤلاء أنه يكفي تحرير مقال أو إلقاء خطاب بالعربية الفصحى كي يستحقوا تلقائيا لقب "مثقف".
هذا التباين بين فئتي الأشخاص الذين يطلق عليهم لقب "مثقفين" هو نتيجة منطقية للإشكالات الثقافية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية.
في انتظار حل دائم و متفق عليه لتلك الإشكالات، نعتقد أن صفة "شخصية مثقفة" في موريتانيا العقد الثالث من القرن الواحد و العشرين يجب أن لا تمنح لشخص إذا لم يكن يتقن اللغة الرئيسية للبلد، العربية، و لغة دولية ثانية، سواء كانت الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية، الروسية، الصينية أو أي لغة مُقَعَّدَة، يتحدث بها الكثير من الناس عبر العالم.
يجب أن يكون خطاب المثقف، الذي تَحَدَّدَ أعلاه، جامعا و بعيدا من أي خصوصية ضيقة.
يتعين كذلك تشجيع إتقان إحدى اللغات الوطنية (البولارية، السوننكية، الولفية) و اعتبار ذلك ميزة تفضيلية.
نواكشوط، 14 سبتمبر 2021
د. أحمد ولد المصطف