في خضم الحديث عن "إقلاع الأسعار" يؤمن أنصار السلطة ببعض العوامل المؤثرة في الأسعار ويكفرون ببعض، ومن ذلك "السياسات الحكومية" التي هي أهم العوامل، ولكنهم يعتبرون الحديث عنها من الكبائر.
تؤثر تقلبات العرض والطلب، ومشكلات النقل والتخزين والتوزيع وما يرتبط بها من عوامل في كل الدول، في عالم أصبح "زُقاقا" واحدا، ولكن الاستجابة الحكومية تختلف بشدة من بلد إلى بلد، وهنا مربط الفرس.
هناك حكومات تمتلك إرادة حازمة، و استراتيجيات محكمة، وتعمل ليل نهار، وبشق الأنفس، من أجل تخفيف وطأة تلك العوامل على الأسعار ومن ثم على المواطن، وهناك حكومات تفتقد كل ذلك، فتفشل في إدارة المخاطر، ويتعرض مواطنوها للخسائر بشكل ثقيل ومزمن..
لم يختلف اثنان منذ بداية جائحة "كوفيد" على أن انعكاساتها على الأسعار ستكون كبيرة، ووزعت تقارير بذلك من طرف الجهات الدولية المتخصصة على جميع الدول، فتحملت بعض الحكومات المسؤولية، ووضعت خططا لتأمين مواطنيها ضد ارتفاع الأسعار، وتراخت أخرى.
لقد نجحت العديد من البلدان في حماية المستهلك عبر ضبط السوق، وكسر احتكار المجموعات التجارية التي تسعى للاستفادة من ظروف الجائحة على حساب المواطن، وتفاعلت العديد من الحكومات بشكل جدي مع استحقاقات الجائحة من خلال سياسات ضريبية وجمركية ونقدية حصيفة لتسهيل شراء و توفير البضائع بالكميات الكافية، وفي الوقت المناسب، وضمان مخزون استراتيجي، مما يخفف من وطأة تقلبات أسعار المنتجين على المستهلك المحلي، فضلا عن "تثوير" الإنتاج المحلي بشكل يقلل الهشاشة أمام الصدمات الخارجية، ويحد من التبعية للخارج وخصوصا في مجال السلع الإستراتيجية، لقد نجحت العديد من الحكومات في ذلك وفشلت حكومات أخرى.
وفي المقابل عملت بعض الحكومات على زيادة القدرة الشرائية للمواطن عبر زيادة الرواتب والأجور، وتقديم إعانات اجتماعية -في مستوى ارتفاع الأسعار- للفئات الهشة، وتفعيل دور المؤسسات و الشركات العمومية في موازنة الأسعار، وتوظيف آليات و جمعيات حماية المستهلك للحد من تأثير العوامل الداخلية في ارتفاع الأسعار، في حين أهملت ذلك أخرى
ورغم ما حصلت عليه بلادنا من عائدات مالية كبيرة نتيجة تزايد أسعار الحديد والذهب والأسماك وتراجع أسعار الطاقة، ورغم المعونات الطائلة التي حصلت عليها بلادنا على شكل منح و وإعفاءات وتسهيلات مالية وقروض أو في صورة معدات وسلع ومواد وتجهيزات عينية، فإن سوء تسيير تلك الموارد وتوظيفها في مجالات غير إنتاجية أدى إلى زيادة في السيولة لم توجه وجهتها الصحيحة فلم تقابلها زيادة في الإنتاج مما أوجد ضغوطا تضخمية إضافية وحفز زيادة الأسعار، وهكذا قامت بعض الحكومات بتوظيف الموارد التي تم جمعها في التحكم في السوق وضبط الأسعار، فيما فاقمت مشكلةَ الأسعار سياسات غير حصيفة وفوضوية لحكومات أخرى.
وبما أن ارتفاع أسعار المنتجين كان متدرجا على مدى سنتين، مما منح وقتا كافيا لمن يريد أن يتدبر أمره، فإن من حق كل مواطن أن ينتقد بمرارة، الضعف في إدارة هذا الملف الاستيراتيجي، وما عكسه من استهتار بالأمن المعيشي للمواطنين، من طرف حكومتنا التي توفر لها الوقت والمال والدعم الداخلي والخارجي لأخذ الاحتياطات اللازمة على غرار ما فعلته حكومات أخرى.
يستطيع المواطن الصبر على ارتفاع أسعار بعض السلع الكمالية، ولكن المواد الغذائية الأساسية تشكل "آخر القلاع" ومن بعدها "الطوفان"، فارتفاعها يعني تدهور مستويات المعيشة، وتزايد سوء التغذية، وزيادة أعداد الجوعى والمرضى وحالات الوفاة، وقد تنزلق الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه من فوضى واضطرابات، ولذلك تحصل هذه السلع على دعم استثنائي من بعض الحكومات فيما يتم تجاهل الوضع أو التعامل معه بطريقة "مسرحية" من قبل حكومات أخرى.
بعد أحلام "الإقلاع" أصبح هم المواطن الموريتاني هو تأمين "الغذاء"، في بلد يمتلك نهرا بطول 750 كلم ومصائد غنية بالأسماك تزيد مساحتها عن 234000كلم مربع، وثروة حيوانية تزيد على 22 مليون رأس من الأغنام ومليون ونصف من الإبل ومليونين من البقر، وموارد معدنية هائلة، وعدد سكان قليل، لقد وظفت العديد من الحكومات مواردها وحفزت الإنتاج المحلي بجدية وتفان فيما تهاونت وتقاعست عن نداء الواجب أخرى.
"منك لله يا حكومة"
عبدوتي عال محمد احمد