بعد ثلاث حملات تراجع فيها المحصول الوطني من الارز، وتقلصت المساحة المزروعة بشكل متتال، نتيجة الالغاء المفاجئ لمنظومة التسويق القديمة، دون وضع الية بديلة ، بعد هذه الحملات الثلاث ،بدأت الامال تنتعش لدي عدد من المزارعين، في جعل هذا العام، وحملته الصيفية الحالية، عاما ¨ فيه يغاث الناس وفيه يعرشون¨ بعد ان بدأت أسعار الأرز الخام تجنح نحو التحسن، ولو بشكل طفيف ، وبدأت التسريبات تتحدث عن نقاش جدي ، داخل الحكومة لمواجهة مشاكل القطاع ، في ظل جهود جادة من وزارة الزراعة، لتطهير القطاع من مظاهر الفساد ،وأدرانن الترهل ، وخلق ظروف اكثر ملاءمة لانطلاق حملات زراعية ناجحة . لكن وزارة المالية بدأت تهوي بمعاول الهدم علي هذه الجهود الواعدة، منذ الايام الاولى لولادتها ، عن طريق إحكام إغلاق منافذ أكسجين التمويل ،في حاضنة الحملة، لتزيد من حدة مشكلة نقص التمويل التي تعتبر ثانية اكبر مشاكل القطاع بعد مشكلة التسويق ، وهما إثنتان من رباعي جهنمي ¨ أهلك الحرث والنسل ¨ يضم النقص الحاد في البذور الجيدة، وفقدان التأمين الزراعي، خلافا حتي لجارتنا الضعيفة السنغال، التي توفر ثلاث مستويات من التأمين الزراعي . وشتان ما بين سياستيي حكومتي البلدين في المجال الزراعي . فالمزارع السنغالي إذا خسر تعوضه الحكومة ، والمزارع الموريتاني إذا خسر تسجنه الحكومة . لكن اتجاها طاغيا بين مسئولينا، تتولي كبره وزارة المالية ، يحلو له تجاهل الإخفاق الحكومي في حل مشاكل القطاع ، الذي دفع المزارعين إليي الإفلاس ، والتغطية عليه بعملية شيطنة ممنهجة للمزارعين ، تجعلهم في صورة من لا يفي بوعد ، ولا يسدد قرضا . إنهم بالنسبة لهذه المدرسة ، ثقوب سوداء ،الداخل إليها مفقود ، والوفاء فيها محدود . وهذه أبرع طريقة ابتكرتها نخبتنا الحكومية ، لخلق درع واقية حصينة ، تحميها من المحاسبة علي أخطائها الكارثية على الإنتاج الزراعي .
لكن يحق للقارئ أن يتساءل : كيف تئد وزارة المالية حملة زراعية ؟ وما العلاقة بين ¨ طير وبخنوس ¨ كما يقول مثلنا الشعبي ؟
خرج المزارعون كما أسلفنا ، من حملات ثلاث متعثرة ، أتت علي الأخضر واليابس ، والكثيرون منهم يعانون من الإفلاس وتراكم الديون . لكن اغلبهم ما زالوا مصرين على معالجة هذه المشكلة ¨ بالتي كانت هي الداء ¨ أي بالزراعة ، اذ لايكادون يعرفون غيرها ، وهم لذلك مضطرون إلي التمسك بأي خيط للأمل ، مستمسكون بالعروة الوثقى لمهنة المتاعب هذه .وقد تقلص التمويل الزراعي بشكل حاد ، حتي وصل إلي مستويات قياسية، لا تتجاوز نحو 700 هكتار فقط في الحملة الخريفية المنصرمة ، مقابل أكثر من 10.000 هكتار في الحملة الخريفية 2014 ،، وأكثر من 15.000 هكتار في الحملات الخريفية التي كان يمولها القرض الزراعي السابق .
ولن نخوض في أسباب هذا التقلص الان ، فذلك حديث ذو شجون ، لا يتسع له المقام في هذا المقال ، لكن لوزارة المالية بالتأكيد نصيبها من أوزاره . فقد ابتكرت وزارة المالية سلسلة من العراقيل تحول بين المزارع وبين الوصول إلي خدمة التمويل الزراعي . وهي عراقيل تفتقر حتى إلي الأسس القانونية ، اللهم إلا إذا استعنا بخدمات خبير في قانون ( لتفتار ) . ومعالي وزير المالية يعرف ، بحكم البعد الاجتماعي ، لتفتار ، وقانون لتفتار . أما أنت عزيزي القارئ ، فخير لك ألا تعرف لتفتار ، ولا قانون لتفتار .
ولعل اغرب إجراءات وزارة المالية ، هو تجاهلها لمبدأ قانوني يفصل بين الشخصية المعنوية لمؤسسة ، والشخصيات الفردية لأصحابها . فوزارة المالية أصرت علي إصدار تعليمات تنص علي ان يحرم المزارع الذي سدد كامل ماعليه من ديون فردية ، والمستوفي للشروط المحددة ، والحائز علي الضمانات المطلوبة ، من الاستفادة من التمويل الزراعي اذا كانت ثمة أقساط متأخرة ، من تأجير الآليات الزراعية ، علي الوحدة الإنتاجية ( GIE ) التي هو عضو فيها .. !
وقد بذلت وزيرة الزراعة ، خلال الحملتين الماضيتين ، جهودا صبورة لدى وزير المالية ، نخشى أن تكون اقتربت من درجة الاستجداء ، لإقناعه بتعليق العمل بهذا الإجراء ، حتي لا ينسف جهودها في إنجاح الحملتين الزراعيتين . وقد كانت النتيجة دائما ¨ حل اللا حل ¨ ، اذ يعلق الوزير العمل بالإجراء ، لكن بعد فوات الأوان ، أي بعد أن يشرف موسم البذر علي نهايته ، ليصبح القرار مجرد ذر للرماد علي العيون .
واليوم ¨ عادت حليمه الي عادتها القديمة ¨ ، وعاد وزير المالية إلي عرقلة الحملة الزراعية، بالربط بين أقساط الآليات ، والوصول الي خدمة التمويل الزراعي . وبهذا يحق لنا ، ونحن نشاهد حملة واعدة ، تدفع دفعا الي نفق الانهيار، ان نطرح سؤالا نراه غدا وجيها : هل يتبع وزير المالية سياسات مالية ، ام سياسات ماحية ، ماحية للإنتاج الزراعي ؟ والي متى ستظل وزارة المالية تتعامل مع المزارعين بعقلية التاجر اليهودي ، في مسرحية شكسبير : تاجر البندقية .؟ ذلك التاجر الذي أصر أمام المحكمة ، علي المطالبة بقطع رطل من جسم مدينه العاجر عن سدادد دينه بسبب غرق تجارته في البحر .. !
إن المتتبع لسياسات وزارة المالية ، في القطاع الزراعي على الأقل ، لا يجد لها إلا منطلقا واحدا هو ¨ التحصيل ، كل التحصيل ، ولا شيء غير التحصيل ، ومهما كان ثمن التحصيل ¨ وهذا ما يجعلنا نتساءل عن تفسير تمسك الوزارة بالأسس المحاسبية متجاهلة الأسس الاقتصادية .اهو الحرص علي التباهي بحصيلة محاسبية صغيرة آنية مرئية ، علي حساب عائد اقتصادي كبير ، لكنه مؤجل ، وغير مرئي لغير العارفين بالشأن الاقتصادي ؟ وإلا فكيف نفسر حرمان مئات الأسر الفقيرة في تعاونيات المزرعة الكبيرة بكيهيدي من دخول الحملة الماضية ، بعد أن باعواا الغالي والنفيس، حتى سددوا 95% من ديونهم للقرض الزراعي ، لمجرد أنهم عجزوا عن تسديد ال 5% الباقية ؟
وإذا ما عرفنا ان مساحة المزرعة المذكورة ، تصل الي نحو 3.000 هكتار ، يمكن ان تنتج في المتوسط ، خلال الحملة الواحدة 1500 طن من الارز الخام ، قيمتها نحو 1.500.000.000 اوقية ، فسندرك مدى الضرر الذي يمكن ان يلحقه تحكيم الأسس المحاسبية علي حساب الأسس الاقتصادية .
أما الآليات الزراعية التي أقامت وزارة المالية الدنيا من أجلها ولم تقعدها فتسمع بالمعيدي خير من ان تراه . إنها 69 حاصدة ، وضعف ذلك من الجرارات ،تم إسناد تسييرها الي وحدات إنتاجية ( GIE) من المزارعين بعقود إيجار منته بالتمليك خلال أربع سنوات .
وقد فرض علي المزارعين دفع 25% من القيمة الإجمالية للصفقة قبل تسلم الآليات .
ولا ينظر المزارعون الي الصفقة بعين تجارية . فهذه الآليات هي الوسيلة لطمأنة المزارع المستفيد علي مصير مزرعته ، وضمان تأمين حصادها في الوقت المناسب ، ايا كانت الخسارة التي يتكبدها في الآليات .وتنقسم الآليات إلي ثلاث ماركات :
أولا : حاصدات افوتوه (foton) الصينية المشئومة وجراراتها .وقد اشترتها الدولة في صفقة نعتبرها ، في أحسن الحالات ، مشبوهة ، ب 60.000.000 أوقية للحاصدة مع جرارها ، علما بان ثمنها الفعلي مع جرارها لا يتجاوز نحو 14.000.000 اوقية ( وقد استوردها مزارع بنحو هذا المبلغ ) .هذا مع العلم بان ثمن حاصدة من أعلى ماركة عالمية، مثل( اكلاص ) الاوروبية لا يتجاوز نحو 42.000.000 اوقية مسلمة في السنغال .
وقد بدأت صورة (افوتوه) الكئيبة تتضح من اول موسم حصاد، لتصبح الة شبه مركونة في مرآب شركة ( اسنات )، حتي أعدتها الدولة علي عجل للتسليم للمزارعين ب 14.000.000 للحاصدة مع جرارها ، دفعوا ربعها نقدا علي الفور .اي ان الدولة باعت للمزارعين حاصدات ( افوتوه ) قديمة ، في حالة سيئة ، بثمنها جديدة من المصنع .
ثانيا : حاصدات ( صامبو) الغريبة ، المهداة مجانا من اليابان . ويظهر ان بها عيبا تصميميا في ذراع تصريف الحمولة . المهم انها ولدت ميتة ، وكانت اسوأ حالا من ( افوتوه ) ، برغم جودة الصناعة اليابانية عادة . وقد حسبت الدولة ( صامبو) علي المزارعين ب 10.000.000 اوقية للحاصدة من دون جرار ، وتسلمت ربع المبلغ نقدا علي الفور .
وهاتان الماركتان ، المتناثرة مقابرهما في شمامة ، لو علم المزارعون أنهم، لو حجوا علي أرجلهم تقربا الي الله ، وتعلقوا بأستار الكعبة متوسلين أن تقبل وزارة المالية استعادة جثثهما ، وتعيد إليهم ما دفعوه ، لو علموا أن الله مجيب دعاءهم ، لما ترددوا في هذه الرحلة الشاقة .لكن المزارعين يعلمون أن طلب المستحيل سوء أدب مع الله .
ثالثا : حاصدات ( ماسي ) الاوروبية ذات التجميع البرازيلي .وهي ماركة جيدة ، لكنها سلمت في حالة يرثى لها .وقد تعطل الكثير منها في الطريق من ساحة التسليم بمرآب ( اسنات ) الي مقر المجموعة المسلمة لها . وقد كنت ضمن مجموعة تعطل عليها الجرار علي بعد نحو ثلاثة أمتار من بوابة التسليم . وظل هنالك أياما ، حتى تدبرت المجموعة إصلاحات أولية أوصلته إلي المدينة علي بعد ستة كيلومترات ، لتبدأ المعاناة الكبرى ، معاناة جعله قابلا للعمل . أما الحاصدة فقد تعطلت عدة مرات في الطريق إلي روصو ، وبعد ليلة ليلاء تمكنت من قطع مسافةة الكيلومترات الستة ، والوصول إلي المدينة . أما ما جرى بعد ذلك فلا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم .
وبالجملة فان خصخصة الآليات الزراعية خطوة سليمة ، ذلك ان الدولة، كما يقول الحسن الثاني في كتابه : ذاكرة ملك ¨ تاجر فاشل ¨.لكن هذه الخطوة عانت من أربعة عوائق أساسية :
سوء بعض الماركات ، التي لايمكن تفسير استيرادها الي موريتانيا الا بقوة طغيان المصالح الفردية للتحالف العريق ، بين أرباب السلطة والمال .
سوء الصيانة قبل التسليم . فالدولة كانت متعجلة في امر التخلص من هذا العبء بأقل تكلفة إضافية .
عدم وجود مصدر موثوق لقطع الغيار ، مما جعل الكثير من الآليات تتوقف لفترات طويلة عن العمل لعدم وجود قطع تافهة زهيدة الثمن . هذا بالرغم من ان اللجنة الفنية التي شكلتها الحكومة في امر خصخصة الآليات الزراعية ، أوصت بايجا د الية لتأمين قطع الغيار في السوق المحلية ، لكن توصيتها أخذت طريقها الي سلة المهملات . كما ان كاتب هذه السطور وجه رسالة رسمية باسم الرابطة الي وزير الزراعة ، حذر فيها انذاك من النتائج الكارثية التي قد تترتب علي ترك هذه الثغرة من دون معالجة . وعلمنا ان وزيرر الزراعة ناقش انذاك امر رسالة الرابطة مع وزير المالية . لكن الرسالة سلكت في النهاية مسلك توصية اللجنة الفنية .
ازمة الزراعة الناتجة عن رفع الدولة يدها عن التسويق ، مما قلص المساحات الزراعية ، وحد من مردودية الآليات .
وفي الأخير ، فان مشكلة تأخراقساط تأجير الآليات الزراعية جزء من مشاكل القطاع بصورة عامة ، وأي محاولة لفرض حل تمييزي لها عن طريق الحصار التمويلي ، لا يراعي ترابط هذه المشاكل ، هو حل قاصر ، ومحكوم عليه بالفشل . فالحكومة تجري نقاشات جادة ، عبر نتائج عمل لجنتين شكلهما الوزير الأول بهدف التصدي لمشاكل القطاع الكبرى ، وسيكون من الحكمة البحث عن حل تشاوري ، يكون جزءا من حزمة الحلول المنتظرة خلال الشهور المقبلة . وهو حل ينبغي في نظرنا ، ان يخلص المزارع من محنة حاصدات ( افوتوه ) (وصامبو) ، ويمكن وزارة المالية من الحصول علي اقساط منتظمة ، وغير مرهقة للمزارع ، عن حاصدات ( ماسي ) ، وعن جميع الجرارات ، أيا كانت ماركاتها ، بما فيها جرارات ( افوتوه ) الضعيفة ، وذات المصاعب الجدية المصاحبة لتشغيلها ، وذلك بعد حل أزمة قطع الغيار ، اذ لا أمل في دخل ذي شأن من هذه الاليات ما لم تحل ازمة قطع الغيار بصورة جذرية .
ولا يسعنا تفويت هذه الفرصة ، من دون الإشادة بأجواء النقاش الحكومي ، الذي كنا احد اطرافه ، خاصة مسألة خلق مظلة تأمين زراعي ، تحمي المزارع الموريتاني ، لاول مرة في تاريخه . لكن من مسئوليتنا تسجيل الشكوى من بطء الاجراءات الحكومية ، وثقل حركتها ، مما يجعلنا نشك في ان يستفيد منها القطاع الزراعي في الحملة الخريفية المقبلة .
ولا نطالب سلحفاة الحكومة هنا ، بمجاراة الغزال في سرعتها ، لكننا بحاجة الي طبيب يصل قبل الموت ، ليوقف نزيف الهجرة من القطاع . فهل الي ذلك من سبيل ؟
عسي الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ، وما ذلك علي الله بعزيز .
بقلم : يحيى بن بـيـبه
رئيس رابطة التطوير والتنويع الزراعي
البريد الالكترونيgmail.com @ beibeyahya
الفيسبوك : يحي بن بيبه