لم يكن النظام الموريتاني ليقبل التفرج على الأزمة السياسية التي مرت بها جمهورية غامبيا الشقيقة، وهو الذي يعرف أن هناك أطراف عدة تسعى لشيطنة الأحداث وجر البلاد إلي أتون حرب أهلية لتحقيق مصالح إقليمية، يتقاطع فيها ما هو اقتصادي وما هو سياسي استراتجي .. وتتداخل فيها الرغبة في تقليم أغافر عدو محتمل، وآخر لا يزال يضع يده على الزناد، في محاولة لخلق دور مؤثر في المنطقة رغم افتقار ذلك التوجه للإنصاف والعقلانية في تعاطيه مع حدث من هذا القبيل ومحاولة إقحام جهات وأطراف أخرى ( C D AO ) لديها من الأولويات الملحة ما يجعل تحمسها لتدخل من هذا القبيل أمرا لا يخلو من ريبة ..
السينغال التي كانت تحشد للتدخل العسكري وتتزعمه بعد أن انتزعت له الموافقة من هيئة الأمم المتحدة، لا تزال تقضم أناملها غيظا على الرئيس المنتهية ولايته يحي جامي الذي تميز عهده بالحدة والحساسية اتجاه نوايا الطرف السنيغالي الذي تفوح منه رائحة الهيمنة التي تزكم أنوف الغامبين ..
السنغال إذا تعقد جفونها اشمئزازا مما تصفه بالمحاولات الدائمة لجامي للي ذراعها من خلال تحريض مفترض أو مساعدات متوهمة للثوار في " كاص ماص" فيما تنظر للرئيس الجديد آدما بارو والمدعوم من طرف المعارضة المحسوبة الولاء عليها على كونه قد يشكل سلما للعبور إلي تلك المطامح التي لم يكن مجرى مياه الود بين يحي والسنغال يساعد في انسيابيتها ..
لكن غابات المنكّو التي تغطي الشريط الحدودي الفاصل بين غامبيا والسينغال لم تكن لتحجب رائحة الدخان المنبعث من هناك ولا لتشوش على إشارات الخطر القادمة من الأدغال، والتي التقطها الرئيس الموريتاني وهو بعد لا يزال في صحراء تيرس الزمور، حيث بقيا دروس الحرب لم تكنس بعد .. كسنجر الصحراء ولد عبد العزيز، على تمرسه وخبرته بإدارة الأزمات الإفريقية ودرايته بعدم قابلية المنطقة لتحمل مزيد الحروب والتوتر لم يفوت على نفسه أي لحظة للتدخل لاحتواء الموقف، رغم تعارض ذلك مع إرادة جهات أخرى، فبادر بإرسال مبعوث التقي بأطراف الأزمة في غامبيا على عجل، لكن ذلك لم يمنعه شخصيا من التحرك السريع للوقوف أمام آوار حرب بدأت حرارتها تسبق الاشتعال ..
المطبخ الموريتاني كعادته كان جاهزا لإعداد وجبة السلم التي اشتركت كل الهيئات الاستشارية عسكرية وأمنية ودبلوماسية في إعداد توابلها بتشاور موسع مع ممثلي الدول الدائمة العضوية في هيئة الأمم المتحدة المقيمين في موريتانيا ومختلف البعثات الدبلوماسية، وجبة كان لها طعمها الخاص لدى يحي جامي الذي يعرف مسبقا حسن وصدق نيات موريتانيا، مثلما لم يجد آدما بارو بدا من تذوقها، مدفوعا بشهية مفتوحة للوصل إلي سدة الحكم .. ورغم مرارتها في حلوق السنغاليين إلي أنهم اضطروا لابتلاعها تفاديا لمزيد من الإحراج، واستحياء من احتمال خسارة بارو الذي تراهن دكار كثيرا على استمالته لصفها.. وجبة الجمعة التي قدمتها موريتانيا على مائدة بالقصر الرئاسي الغامبي بحضور الرئيس الغيني الفا كوناري وممثل الأمم المتحدة والرئيس المنتهية ولايته وممثل منظمة الوحدة الإفريقية وممثل منظمة غرب إفريقيا، كانت مقنعة بالنسبة للرئيس جامي الذي قرر نفض يديه من آخر الصحون ليغسلهما في انواكشوط قبل استكمال رحلته إلي حيث مقر إقامته الدائم، رحلة لا يريد لها الرئيس الغامبي أن تبدأ قبل أن يوف الطرف الموريتاني حقه في الثناء ويعبر له عن امتنانه للجهود التي بذلها من أجل تجاوز أمة بلده بسلام...
موريتانيا التي نجحت في إدارة الأزمة الغامبية بطريقة رائدة أفضت نتائجها إلي حل سلمي وتوافقي، استطاعت كذلك تسليط الضوء على مكامن التناقض والتقصير الحاصل في تسير المواقف من الأزمات التي تعرفها بعض البلدان في منظمة غرب إفريقيا ( C D A O) وعجز المنظمة عن إدارة وتسير تلك الأزمات والتدخل لفرض السلم في بعض دولها ( مالي، نيجريا،النيجر،ليبريا..) التي أصبحت مرتعا ومسرحا لمنظمات إرهابية، واكتفت هذه المنظمة بالتفرج على ما تقوم به فرنسا من تدخل لم يزد الوضع إلا تعقيدا.. فيما تتباهي الدول المنتمية لهذه المنظمة باستعراض عضلاتها وتحشد جيوشها لفرض حلول عسكرية في بلد جار وصديق مثل غامبيا أحوج ما يكون إلي السلم .
ويسجل هنا للرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز أنه أول من هنأ الرئيس الغامبي المنتخب آدما بارو ، لكن ذلك لم يمنع موريتانيا من الحفاظ على موقف متوازن يسمح لها بالتدخل لاحتواء أزمة كانت تنذر بزوال بلد جار وصديق.
كتلة الإنصاف الوطني