دون تَعَمُّقٍ؛
تعدُّ الحوادث المرورية من أكثر القضايا إثارة للاهتمام الوطني اليوم، بالنظر الى نتائجها الفادحة و الباهظة التي تصيب النَّفس والبدن والمال مشكِّلةً عبئا اجتماعيا واقتصاديا ثقيلا و مؤرقا، يتفاقم بتزايد العربات البرية ذات المحرِّك، وتعقُّد حركة المُرور، و ضعف شبكة الطرق الحضرية، و سعي شركات التأمين الدؤوب إلى حماية مصالحها، بالإضافة الى ضعف الثقافة المرورية.
فبنظرة خاطفة على الارقام المتوفرة عن الحوادث المرورية يظهر لنا ان كل مائة الف نسمة من مجمل سكان البلد تموت منها 35 نسمة سنويا (35/100.000)، وأنه في الفترة ما بين: 2003 و 2015 تم تسجيل 103.301 حادث سير راح ضحيتها: 2667 قتيلا و 37.509 جريحا. ارقام تخفي وراءها أضرارا لا يمكن تداركها إلا من خلال سنِّ جملة من الاجراءات الحازمة و المتكاملة، في مجال الوقاية والتعويض.
وعند الحديث عن التعويض لا بُدَّ من تخطّي ما استقر عليه الفقه القانوني تقليديا من تأسيسه على الخطأ، فإذا كان الخطأ التقصيري عموما منحصرا في ترك ما هو واجب فعله او فعل ما وجب تركه بغير قصد الضرر او بقصده، وهو موجب التعويض سواء كان مثبتا او مفترضا يقبل الدليل المعاكس او لا يقبله، او كان اساس التعويض التبعية او الضمان او الحلول او النيابة ، فان المشرع اعتمد نظاما قانونيا خاصا بإقرار الحق في التعويض بصرف النظر عن فكرة الخطأ، فالتعويض في الحوادث المرورية يكون عن الاضرار التي لحقت بالأشخاص دون امكانية معارضتهم بالأخطاء أو بالقوة القاهرة أو بالأمر الفُجائي، أو بفعل الغير، وهو ما يعطي له ميزة الاستثناء من القواعد العامة التي تلزم بالتعويض عن الاضرار الناتجة عن الحادث لفائدة المتضرر، أو خلفه عند الوفاة، وتمنع الاحتكام الى القواعد العامة المذكورة في قانون الالتزامات والعقود، إلا اذا لم تكن شركة التامين طرفا في القضية و في هذه الحالة يمكن ان توجه الدعوى ضد المسؤول المدني عن الحادث على اساس المبادئ العامة الواردة في قانون الالتزامات و العقود.
ومن هنا جاءت فكرة إفراد التعويض في مجال التامين بعمل تشريعي مستقل عن تلك الاحكام العامة المنظمة بالمواد:97؛98 وما بعدها في بابها من قانون الالتزامات والعقود، استجابة للرغبة الجامحة في ضمان تعويض عادل للمتضررين بوضع نظام تعويضي متكامل، سواء من حيث تحديد الاطراف الذين لهم الحق في التعويض (المتضرر او الخلف)، أو من حيث بيان المسئول المدني الحارس القانوني المالك او الماسك للوسيلة، او الحارس الفعلي الذي يملك سلطة التوجيه والإرادة والاستعمال بصرف النظر عن المُلك، او من حيث الحَوْز القانوني، أو من حيث ضبط اسس التعويض ونوعية الاضرار ، أو من حيث اجراءات الدفع و التسوية.
إن هذه العقيدة الفقهية تم تبنِّيها بصورة تدريجية من قبل المشرع الموريتاني بدءا من معالجته التشريعية لموضوع التامين من خلال القانون رقم:020\76 بتاريخ:27\01\1976 المتضمن و لأول مرة إجبارية التأمين على العربات البرية ذات المحرك، و المعدل بالأمر القانوني رقم:016/91 بتاريخ:20 يوليو 1991، الذي كُمِّل بالأمر القانوني رقم:039/91 بتاريخ:08/12/1991 الذي استبدل بالقانون رقم 040\93 بتاريخ:20 يوليو 1993 المتضمن مدونة التأمينات المعدل بالأمر القانوني رقم:026\2007 بتاريخ:9 ابريل 2007، الساري حاليا، والذي تنطبق قواعده على جميع عمليات التأمين الخاضعة للقانون الموريتاني، ويعتبر قواعده غير المضمنة في هذا القانون- والتي يمكن ان تكون مناقضة له- بمثابة قواعد غير مدونة، وصولا الى معالجة مَسْطَرَة التعويض لضحايا الحوادث البرية من خلال القانون رقم:047/2011 بتاريخ:13 نوفمبر 2011 المتعلق بمسطرة تعويض ضحايا الحوادث التي تسببت فيها عربات ذات محرك.
فمنذ استحواذ الدولة الناشئة على التأمين بموجب المقرر رقم:316 بتاريخ:28\10\1960 المتضمن اعتماد شركة التامين و إعادة التامين الفرنسية:Groupement française d’assurance، تمَّ وضع يد الدولة الوطنية على مجال التامين بالأمر القانوني رقم:017\91 بتاريخ:20\07\1991 المتعلق باحتكار الشركة الموريتانية للتأمين وإعادة التامين المعدل بموجب القانون رقم:008\93 بتاريخ:09 يناير 1993، والتي أفلست نتيجة لعدة عوامل منها انهاكها قضائيا بالأحكام الصورية؛ نظرا لعدم الاكتراث الاجتماعي بالرأس مال العمومي، ما ادى بالدولة إلى ان تتجه الى خوصصة قطاع التامين بحل هذه الشركة بموجب المرسوم رقم: 002/94 بتاريخ:03/01/1994 القاضي بحل الشركة الموريتانية للتأمين وإعادة التأمين، وعلى انقاضها شاركت الدولة في التامين بشركة نصر بموجب المرسوم رقم:119/93 بتاريخ:11/12/1993 المتعلق بإنشاء الشركة الوطنية للتأمين وإعادة التأمين نصر، لتَتْرى بعدها التراخيص بمقررات وزارية يصدرها الوزير المكلف بالتأمينات صدرت تباعا وفي فترات متقاربة وصلت حاليا أكثر من 16 شركة تأمين ناشطة في السوق الوطني تتفاوت في الجدية و جودة الخِدمات.
أمام هذا الواقع تتشعب الاشكالات التي تتلخص أساسا في البحث عن كيفية تحقيق التَّوازن بين مصلحة الضحايا من جهة، و مصالح شركات التأمين الباحثة عن الربح، ومصلحة الدولة التي يقع على عاتقها بالدرجة الاولى أمن وسلامة المواطنين، ومن هنا كان لا بد من معالجة ومَسْطرة تعويض الحوادث التي تسببت فيها عربات برية.
و لن يخفى ان الدولة حين غَلّت يدها عن التامين واعتمدت ليبرالية الخدمة انحصر دورها في مجال المراقبة: رقابة جودة الخدمة و سرعة وقيمة التعويضات الممنوحة لضحايا حوادث السير، ولذا بادرت وللوهلة الأولى بإنشاء لجنة مراقبة التأمينات تطبيقا للمادة: 331 من قانون التأمين وذلك بموجب المرسوم رقم:120/93 بتاريخ:12/12/1993 القاضي بالمصادقة على النظام الداخلي للجنة مراقبة التأمينات، و المرسوم رقم:118/93 بتاريخ:12/12/1993 الذي يقضي بتعيين رئيس وأعضاء لجنة مراقبة التأمينات .
لقد عوَّلت الدولة الكثير على هذه اللجنة التي أُنيطت بها مهمة رقابة التأمينات طبقا لترتيبات المادتين: 325 و331 من قانون التأمين، ولها حق المساءلة والتقصِّي عن أي مسألة تراها ضرورية، ويساعدها في مزاولة تلك المهمة سلك من المفوضين المراقبين التابعين لمديرية التأمينات، ثم بإنشاء صندوق ضمان السيارات الذي أتى تطبيقا للمادة:345 من قانون التأمين والذي يحدد بالتفصيل المرسوم رقم:118\2012 بتاريخ:14 مايو 2012 طرق سيره، و يتمتع هذا الصندوق بالاستقلال الاداري و المالي، ويمكنه ان يتدخل امام المحاكم من اجل معارضة مبدأ أو مبلغ التعويض المطلوب في كافة الحالات التي قد تحدث بين ضحايا الحوادث أو ورثتهم من جهة، ومرتكبي الحادث او المؤمِّنين من جهة اخرى، وفي كل الاحوال يتدخل بصفة رئيسية ويمكنه ان يستخدم كافة طرق الطعن التي يخولها القانون، وتُلزم مؤسسات التأمين بالتصريح لدى هذا الصندوق في نهاية كل ستة اشهر بالأقساط التي تم اصدارها و التي تمثل وعاء مساهمة المؤمنين، ويجب ان يصحب هذا التصريح بالتسديد ، كما يجب ان يعاد دفع المبالغ المحصلة لحساب صندوق ضمان السيارات في حساب مفتوح لدى صندوق الايداع و التنمية، و تتعرض المؤسسة التي تخرق هذه المقتضيات الى العقوبات المنصوص عليها في المادة:330 من قانون التأمين التي كانت قبل التعديل سبع عقوبات تنحصر أساسا في: الانذار، و حظر انجاز عمليات التامين، والتعليق، وإيقاع عقوبات مالية ، و تقديم طلب الى الوزير المكلف برقابة التأمينات لنقل محفظة العقد او جزء منها نهائيا ،و تقديم طلب له بسحب الاعتماد وقد حذفت هذه العقوبة الاخيرة في التعديل الذي ادخل على القانون:040-1993 المتضمن مدونة التأمينات بموجب الامر القانوني 026-2007 لتصبح هذه العقوبة النطق بالسحب الكلي او الجزئي لاعتماد المؤسسة للقيام بعمليات التأمين.
وعن وعي ألغى المشرع في التعديل الجديد للمادة 338 عدم نافذية هذه العقوبات إلا بعد موافقة اللجنة، ليجعل ملزما فقط اخذ رأيها، ولتعزيز دور الرقابة عاقب المشرع كل شخص يقوم بتصرف يؤدي الى اعاقة عملية مراقبة التامين بالحبس من 6 أشهر الى سنتين.
ورغم التحسينات التي أدخلت على مجال الرقابة إلا ان ضعف الاداء وانعدام الجدية أدَّيا إلى اخفاق هذه اللجنة التي لم تعدو كونها ادارة عنكبوتية ظلت تتبع لوزير التجارة الجهة الوصية على قطاع التأمين قبل تبعية هذا القطاع الجديدة لوزارة المالية بموجب المرسوم: 349/2019 بتاريخ:09/09/2019 الذي يحدد صلاحيات وزير المالية وتنظيم الادارة المركزية لقطاعه. من خلال إدارة مكلفة برقابة التأمينات و اعداد وتنفيذ سياسات الحكومة في مجال التأمينات.
لقد انعكس ضعف الرقابة الى اطلاق العنان لشركات التأمين لقوْنَنَة الفوضى مما أدى الى تباين في الاقساط و التحكم فيها و تعقيد مساطر التعويض بل و المماطلة في تنفيذ القرارات القضائية الباتة القاضية بالتعويض، ما أدى الى حالة من الفشل الذريع و الاشمئزاز الشعبي الفظيع من الشَّره الذي شكل عبئا ثقيلا على القضاء الوطني في ظل محاولة شركات التأمين للهيمنة على التشريعات الوطنية.
استدعت حالة اليأس هذه تدخلا تشريعيا عاجلا يضبط مسطرة تعويض ضحايا الحوادث التي تسببت فيها عربات برية ذات محرك بموجب القانون رقم:047-2011 بتاريخ:13 نوفمبر 2011 الذي يحدد اجراءات المصالحة من طلب التعويض وتقديم العرض و الاجراءات القضائية ونفاذ الاحكام بطريقة متوازنة بغبن يسير من شركات التأمين، ففي الوقت الذي قلص فيه المشرع آجال عرض التعويض من خمسة اشهر الى ثلاثة اشهر المادة:4، وذلك بإلغاء الترتيبات الواردة في المادة: 30 جديدة من مدونة التأمينات التي تنص على انه يتعين على مسؤول التأمين ان يقترح على الشخص المؤَّمن عرضا مفصلا بالتعويض عن نوعية الاضرار في اجل ثلاثة أشهر اعتبارا من تاريخ النكبة وأنه يرفع أجل تقديم العرض الى خمسة اشهر عندما يتعلق الامر بتعويض الاضرار الجسدية التي أدت الى إعاقة جزئية دائمة من 10% أو الى الوفاة، ولهشاشة تطويل الآجال لجأ المشرع إلى ايراد تبرير غير معهود بإعطاء الوقت الكافي للطرفين من اجل جمع الوثائق اللازمة لتحديد المسؤوليات و التقويم الصحيح لمبلغ الأضرار، وفي هذا من الاجحاف ما هو باد خصوصا أن المشرع لم يرتب على تجاوز مسؤول التامين للأجل المحدد إلا رفع التعويض بنسبة 5% فقط لا تضع لها الاحكام القضائية في الغالب محلا. وهو ما جاء القانون 047-2011 لتقليصه بإلغاء ترتيبات المادة 30 الانفة نهائيا، بل وألزم المؤمِّن بتقديم عرض احتياطي للتعويض في حال ما إذا لم يمكن تحديد الضرر الحاصل أو حصر آثاره المادة:6، وفي المقابل ربط قبول أي دعوى قضائية بوجوب تقديم طلب المصالحة الذي يجب على الضحية او ذوي حقوقه أن يتقدموا به مرفوقا بالوثائق نسخة من محضر الحادث ونسخة من الخبرة او شهادة الوفاة او أية وثيقة أخرى ضرورية للتعويض، وفي حال انصرام الآجال المنصوص عليها في المادة:4 دون حصول الضحية أو ذوي حقوقه على التعويض يمكن له رفع دعوى قضائية امام المحكمة المختصة في قضايا التامين[الغرفة المدنية بمحكمة الولاية].
ولا شك أن من حسنات هذا العمل التشريعي [ القانون 047-2011 المتعلق بمسطرة تعويض ضحايا الحوادث التي تسببت فيها عربات برية ذات محرك]، تعويض الضحايا عما يسبَّبه تطويل آجال المصالحة من ضياع الزمن بالتنفيذ المعجل للأحكام القضائية المتعلقة بالتعويض التي منحها المشرع صبغة النفاذ المعجل رغم المعارضة و الاستئناف، وهي حسنة تنْضاف إليها مزيَّة توسيع نطاق التطبيق ليشمل وبنفس الشروط الحوادث التي تسببت فيها العربات البرية ذات المحرك المملوكة من طرف الدولة طبقا للمادة:16 من هذا القانون، حيث كانت قبلُ مستثناة بمقتضى القانون: 020/1976 الذي وضع ترتيبات تنظيمية خاصة بتنفيذ الزامية التامين فيما يخص السيارات المملوكة للدولة و المجموعات المحلية في مادته الثانية.
بالإضافة إلى مزية تحديد آماد التقادم بشكل أوضح، سواء فيما يتعلق بتقادم طلب التعويض المحدد بخمس سنوات من تاريخ إلتئام الجراح أو من تاريخ الوفاة ، أو بتقادم دعاوى التعويض اذا لم تقدم الى المحكمة المختصة في اجل ثلاث سنوات التي تلي تاريخ العرض الذي يمتنع فيه المؤمِّن عن التعويض أو تاريخ الرسالة التي يرفض فيها الضحية أو ذوو حقوقه عرض التعويض المقدم من قبل المؤمن المادة:17 من القانون رقم: 047/2011.
لقد مكنت هذه المزية الاخيرة من تجاوز الارتباك القضائي الناتج عن الخلط بين تقادم الدعوى المتعلقة بالتعويض عن الحوادث المرورية، و تقادم الدعاوى المتفرعة عن عقد التامين التي حدد المشرع تقادمها بسنتين اعتبارا من تاريخ الحادث الذي نجمت عنه طبقا لصريح المادة 40 من مدونة التأمين، فنتج عن هذا الخلط رفض كثير من الدعاوى المقدمة من الضحايا [الغير] تمسكا بمقتضيات تتعلق بالدعاوي المتفرعة عن العقد و الواقعة حصرا بين المؤمَّن و المؤمِّن، حيث بيَّن المشرع أن الاشتراطات الواردة في المواد 40 من قانون التأمين مقصورة على طرفي العقد ولا يحتج بها على الغير طبقا للمادة 166 جديدة من القانون:26\2007 المعدل لمدونة التأمين ، ورغم كل ذلك فان عدم فهم هذه المادة أدى الى ضياع كثير من الحقوق بسبب رفض دعاوى الضحايا المقدمة بعد سنتين من تاريخ وقوع حادث السير وهو ما انحسم مع تحديد آماد التقادم في القانون 047/2011.
وبالرغم من هذه المزايا و التحسينات فان المعالجة القضائية بقيت طويلة محبطة و مجحفة بالضحايا ومكلفة بالمقارنة مع التعويضات الهزيلة الممنوحة للضحايا خصوصا بالنسبة للأضرار الجِسْمانية، وهو ما جعل المشرع يقوم بمراجعة مبلغ التعويض في هذه الحالة بموجب المرسوم رقم:150\2011 بتاريخ:02 يونيو 2011 الذي يلغي ويحل محل المرسوم رقم:23\2002 بتاريخ:15 ابريل 2002 المتضمن تطبيق بعض مقتضيات قانون التأمين ذي الرقم: 040\1993، و من خلال هذه المراجعة فإن ضحايا الحوادث البدنية الذين لا يتقاضون مرتبات ولا يستطيعون تقديم تصريحات ضريبية عن فقدان الدخل بسبب العجز المؤقت عن العمل المثبت بواسطة كشف طبي يبين مدته، يعوضون بمبلغ يحسب على أساس المرتب الشهري الادنى المعمول به في البلد يوم تسديد التعويض، بينما يتم تعويض الاعاقة الدائمة او العجز النهائي المشار اليه في المادة 44 من مدونة التامين عن طريق تطبيق النسبة المئوية للإعاقة المحددة بخبرة طبية تأخذ في الحسبان انتقاص القدرة البدنية و التي تتراوح بين 0% و %100 بعد تضميد جراح الضحية بمبلغ:250.000 اوقية جديدة، و أما في حالة الوفاة فيحصل الورثة على تعويض عن الضرر الذي اصابهم بمقدار 250.000 اوقية جديدة في حال التوصل الى حل ودي بين الاطراف، وفي حالة عدم التوافق ورفع دعوى من الورثة الشرعيين ضد المؤمَّن امام المحكمة المختصة يرفع هذا التعويض بنسبة %20 ليكون:300.000 اوقية جديدة. كل ذلك طبقا للمواد: 2 و 3 و 4 من المرسوم الانف.
ولئن أدت المراجعة التي جعلها المشرع دورية بمقتضى المادة:48 من مدونة التأمين الى انتقال مبلغ التعويض من مليون و مائتي ألف اوقية قديمة وفق المرسوم:023/2002 المُراجَع الى ثلاثة ملايين أوقية قديمة بموجب المرسوم 150/2011 الآنف؛ إلا أن الحصول عليها قضاء تحول دونه آجال عديدة مديدة تبدأ من أجَل المصالحة او تقديم عرض التعويض من طرف الضحية المحددة بخمسة اشهر في غير الوفاة و ثلاثة اشهر في حالة الوفاة من تاريخ تقدم طلب التعويض وهو الاجراء اللازم قبل تحريك أي دعوى طبقا للمادة 12 من القانون 047/2011 الآنف ، ثم آجال التقاضي بدءا من تقديم العريضة الفاتحة للدعوى وانتهاء بمهلة التنفيذ الجبري أي ما مجموعه سبعة اشهر في المتوسط وهو ما يجعل من الضروري توجيه القاضي المدني خصوصا الى الحكم بمئونة مؤقتة للمضرورين ريثما يتم فصل القضية أمرا وجيها كالمُكنة منحت للقاضي الجزائي الذي بإمكانه ان يمنح الطرف المدني تعويضا مؤقتا نافذا رغم المعارضة أو الاستئناف.
ان تطبيق مسألة التعويض تطرح إشكالا آخر اذا ما تعلق الامر بالحوادث التي تسببت فيها عربات برية ذات محرك غير مؤمنة أو معلقة التأمين أو مجهولة المرتكِب. هل يتوجه الحكم في نطاق المسؤولية المدنية وفقا للتعويض المقرر في مجال العربات مؤمنة، أم ان الامر كله يعود الى صندوق ضمان السيارات المنشأ بموجب المرسوم رقم:118/2012 والذي تنص المادة: 12 منه على انه يجب ان تثبت المطالبات أن مرتكب الحادث لم يُمْكِن التعرف عليه، أو تبين انه معسر بعد تحديد التعويض بموجب مصالحة، أو بموجب قرار قضائي نافذ. و انه في حالة ما اذا كان مرتكب الحادث البدني نتيجة حركة السيارات مجهولا او غير مؤمن فإن المحضر الذي يحرره وكلاء القوة العمومية و المتعلق بهذا الحادث يجب ان يذكر صراحة هذه الظرفية.
وفي كل الاحوال فإن مبلغ التعويض في هذه الحال يثير اشكالا مدويًّا؛ هل هو نفس التعويض في مجال الحوادث الناجمة عن عربة مؤمنة ام هو تعويض بالدية الشرعية مع ما تثيره طبيعة الدية في هذا المجال من اشكالات ، ثم ما هي المحكمة المختصة بالبت في هذه الدعوى.
و تثير مسألة التعويض الناتج عن الدعوى المدنية التابعة في حال المتابعة الجزائية عدة اشكالات تتعلق اساسا بمدى امكانية تطبيق المقتضيات المسطرية الواردة في المادة:424 من المسطرة الجنائية في ظل وجود مقتضيات مسطرية خاصة واردة في القانون رقم:047/2011 المتضمن مسطرة تعويض الحوادث المرورية. تتعلق بآجال المصالحة وإلزامية انصرامها لتقديم دعوى التعويض.
لقد نص المشرع على أنه ذا رأت المحكمة أن الواقعة تكوِّن جنحة تحكم بالعقوبة، وتبت عند الاقتضاء وبنفس الحكم في الدعوى المدنية، ولها أن تأمر بالدفع مؤقتا لكل أو بعض التعويضات المحكوم بها. فهل هذا يتم دون مراعاة الآجال الالزامية الواردة في القانون الخاص.
وإذا كان مقدار التعويض لا يمكن تحديده في الحال تفصل المحكمة مبدئيا في حق الطرف المدني في التعويض، وتأمر بإجراءات التحقيق الضرورية لإثبات الضرر، وتحدد تاريخ الجلسة التي ستواصل فيها المرافعات، فهل يمكن مواصلة المرافعة في مسألة صدر فيها حكم، و ما هي الحال اذا ما تم استئناف الحكم الصادر، وكيف يتم اصدار حكمين في ملف واحد؟.
ان الحل الانسب هو ما درج عليه بعض القضاة من الفصل مبدئيا بأحقية الطرف المدني بالتعويض في الحكم المُدين والاحتفاظ له بالقيام به أمام المحكمة المدنية المختصة وفق الاجراءات المحددة في القانون الخاص بمسطرة بالتعويض وهو حل مناسب في ظل ضبابية هذه المقتضيات واستحالة تطبيقها مع ما فيه من اجحاف المضرور.
وإذا كان هذا هو الحل الانسب في نظرنا فان امكانية الجمع بين التعويض المنصوص عليه في قانون التأمين و الدية الشرعية المنصوص عليها في المادة 295 من القانون الجنائي و التي تنص على أن: كل من قتل خطأ أو تسبب في ذلك برعونته أو عدم احتياطه، أو عدم وانتباهه أو إهماله،أو عدم مراعاته الأنظمة، يعاقب بالدية. وكذا المادة 295 مكررة الي تنص على انه بالإضافة الى الدية يعاقب مرتكبو الافعال المنصوص عليها في المادة 295 بالحبس من ثلاثة اشهر الى سنة وبغرامة ثلاثة مائة الف اوقية الى ستمائة الف اوقية او بإحدى هاتين العقوبتين. يثير عدة اشكالات .
فعلى الرغم من أن المشرع الوطني لم يعتبر الدية عقوبة حين عدد العقوبات الجنائية و الجنحية في المادة 7 من القانون الجنائي الحالي ، إلا انه اعتبرها في المادة الاولى منه المتعلقة بتصنيف الجرائم صنفا من العقوبات المسلطة على جرائم الدية وذلك حين قسم الجرائم إلى ثلاثة أنواع:جرائم تعزير؛و جرائم حدود ؛و جرائم قصاص أودية بل نص في عديد مواده كـ: 213؛285؛286؛287؛294؛295؛296؛413 على أنها عقوبة. إلا أنه و بالرجوع إلى القانون 158- 1972 المعدل بالقانون الحالي نجد المشرع يستعمل عبارة REPARATIONS CIVILES أي التعويض المدني وهو ما يعزز في تردد في طبيعة الدية.
وهو التردد النابع من الجدل حول تكييف الدية وتحديد طبيعتها وفق ثلاث إتجاهات: اتجاه يرى انها عقوبة جنائية محضة، و آخر يرى أنها تعويض مدني خالص، وثالث رأى انها جزاء يدور بين العقوبة و التعويض وينبني على تلك الاتجاهات مدى إمكان او جواز الجمع بين الدية و التعزير من جهة، وبينها وبين التعويض المدني من اجهة أخرى فإذا كانت الدية عقوبة أمكن الجمع بينها وبين التعويض و امتنع اضافة عقوبة أخرى اليها، وان كانت تعويضا جاز الجمع بينها وبين عقوبات اخرى و امتنع التعويض.
و الحاصل ان الدية من الجوابر التي قصد بها العمل على رفع الضرر وتعويض المضرور، وان تضمنت العقوبة و العمل على منع المعتدي وزجره.
ومن هنا جاء حكم محكمة الاستئناف بانواكشوط حين الغت الحكم رقم:005/2017 الصادر عن الغرفة الجزائية بمحكمة الولاية القاضي بالعقوبة و الدية الشرعية على المتهم وذلك في قرارها الذي اعتبر هذه التعويض المتمثل في الدية لاغ لحصوله بالحكم رقم:006/2017 الصادر عن الغرفة المدنية بنفس المحكمة وعليه يكون هذا القرار الاستئنافي 090/2017 بتاريخ:20/06/2017 اعتبر التعويض المقضي به من طرف الغرفة المدنية وفق مدونة التأمين مغنيا عن الحكم بالدية الذي اصدرته الغرفة الجزائية بنفس المحكمة.
ومع ان هذا لا يحسم هذا التداعي الذي تنضاف اليه مسألة تقويم الدية الشرعية ، وهي في حال الخطأ مخمسة، إذ غالبا ما تحكم المحاكم بالدية الشرعية دون تحديد قيمتها بالنقد وهو ما جعل بعضها يلجا في تحديدها عند الطلب الى تحديدات متشعبة، تتردد بين حكم المحكمة الجنائية بانواكشوط ذي الرقم 199/1997 بتاريخ:14/09/1997 الذي قضى بادانة المتهم بارتكاب جريمة القتل الخطأ و الدية المقررة شرعا في القتل الخطأ لفائدة الطرف المدني وهي مائة من الابل مقومة بمبلغ:3.400.000 اوقية منجمة على ثلاث سنين وبحبسه سنة و باطلاق سراحه فورا لانقضاء عقوبة الجريمة المحكوم بها عليه في الحبس الاحتياطي، وبين من حددها بعد استشارة المجلس الاعلى للفتوى و المظالم الذي رأى ان موضوع تحديد قيمة الدية ينبغي ان يكون موضوع خبرة، وهو ما جعل رئيس المحكمة الجنائية بانواكشوط يحدد الدية المترتبة عن ادانة بالقتل الخطأ بمبلغ:12.535.666 اوقية قديمة اعتبار للسوابق القضائية في القرار رقم:009/2015 بتاريخ:27/05/2015 بناء على تقويم قريب من تاريخ صدور الحكم الجنائي البات ذي الرقم:240/2013 بتاريخ:04/08/2013 وكان التقويم المذكور يوم 05/08/2013 أي بفارق يوم واحد بموجب القرار 120/2013 بتاريخ/05/08/2013 الصادر عن رئيس الغرفة المدنية بمحكمة نفس الولاية، والذي اعتمد هو الآخر على امر بتفسير حكم صادر عن الغرفة الادارية بنفس الولاية رقم: 023/2011 بتاريخ:14/06/2011 يحدد الدية الشرعية بمبلغ:4.887.499 اوقية قديمة.
ورغم ان هذين القرارين لم يصمدا طويلا حيث نسفتهما المحكمة العليا حين قررت الغاء قرار المحكمة الجنائية دون تحديد مبلغ الدية وألغت قرار الغرفة المدنية الآنف و اكدت ان مبلغ الدية هو ثلاثة ملايين اوقية قديمة.
ولا شك ان هذا التباين يلجئنا الى ضرورة البحث عن ايجاد بديل لتحديد مبلغ الدية. و هنا نقترح ان يتم تحديده سنويا وفق آليات مضبوطة يضعها البنك المركزي بالتعاون مع وزارة العدل يتم من خلالها تحديد مبلغ الدية وفق تقويم يعتمد رأي الخبراء مع الاستناد الى ما ترتب في الشرع من تحديد قيمة الدية ليتسنى للقضاة الحكم بقيمة الدية حتى تكون احكامهم قابلة للتنفيذ.
ورغم ان هذا الرأي مناف لما نطقت به فتوى المجلس الاعلى للفتوى و المظالم رقم:004 بتاريخ:06/03/2018 و التي جاء فيها ما يلي: "والذي نراه ان القاضي في بلدنا اذا اراد ان يحكم بدية الخطأ فعليه ان يحكم في الرجل بمائة من الابل مخمسة منجمة على ثلاث سنين وفي المرأة بخمسين ، وليس له ان يحكم بقيمتها من العملة او من غيرها لوجود الابل و إمكان الحصول على الاصناف المطلوبة في الآجال المحددة لذلك.... و اما تحديد قيمة الدية من العملة المحلية فليس موضوع استشارة فقهية وإنما هو موضوع استشارة خبرة يسال عنه تجار المواشي اساسا ولا يمكن ان تكون هناك قيمة يؤخذ بها لمدة طويلة او قصيرة لتقلب اسعار الابل السريع من جهة و تذبذب قيمة العملة من جهة أخرى
ورغم أننا لا نسلم بهذه الفتوى في جميع تفاصيلها الفقهية كاعتبار دية المرأة نصف دية الرجل، إلا اننا نقرأ من خلالها دواعيها قلق القضاة الناتج عن هدر مبدإ الشرعية الذي يحتم تقدير وتحديد العقوبة وقابليتها للتنفيذ، وهو ما لا يتأتى عند الحكم بالدية La DIYA كعقوبة مقدرة يكاد يستحيل دفعها اليوم إبلاً ما يجعل اللجوء الى تقديرها بالنقد واجبا يقع على عاتق المفتين أولا.
ان حجم القضايا المعروضة على القضاء يحتم ايجاد حلول سريعة لهذه الاشكالات فبالنظر الى حصيلة المحاضر المضمنة لحوادث سير و المحالة الى وكالة الجمهورية بمحكمة ولاية انواكشوط الجنوبية سنة 2017 و البالغة 2080 محضر/حادث سير يتبين لنا حجم المشكل الذي يحتاج الى معالجة عاجلة وسريعة تعتمد أولا: مراجعة الاطار القانوني للتأمين، و ثانيا الاطار المؤسسي لشركات التأمين .
د.هارون ولد عمَّار ولد إديقبي