يُوجَد اليوم ماكرون في خِضَمِّ جِدَالٍ لا تزال ارتداداته وتداعياته تتّسع يوما بعد يوم،وقد استحضر بهذا النّقاش خلافات تعود إلى أعراف وممارسات الحروب الدينية الغابرة. فعلى إثر عمل إرهابي اقترفه شاب شيشانيّ يافع لا يكاد يبلغ سن الرشد، خرج علينا ماكرون في حديث مفاجئ وهو يعلن الحرب على الإسلامو"الإسلامويّة" !
وكانت الكلمات الأشد قسوة موجهة ضِدّ النبي محمد صلىالله عليه وسلم ، وضدّ جميع رموز الدين المقدس.
لقد رَمَى رئيسُ جمهوريةٍ لأُمّةٍ فرنسية عتِيقة، بإساءة في وجه العالَم المسلِم ستظل لمدة طويلة لغزًا مُحيِّرًا، وكان الرأي العام ـ ويا لَلأسف ـ متأثرا بمآسي الإرهاب، الأمر الذى جعله يتفهم حِدّة خطاب الرئيس الفرنسي.
لا شك أن دوافع ماكرون متعددة ومركَّبة، ودون أن نزعم الإحاطة بهذه الدوافع، فإننا سنذكر أهمّها .
*محاولة سافرة ذات علاقة بالانتخابات، تَرُوم استمالة شريحة من جماعة الناخبين من اليمين، فقد أدرك ماكرون أن سياسة الوسَط ـ لا مع اليمين ولا مع اليسار ـ قد باءت بفشل ذريع، فاتخذ خطوة غيرَ موزونة نحو اليمين المتطرف، في تنافس محمُوم مع مَارِي لبًنْ في مجالها المفضل دائما، الأمر الذي سيضيف المزيدَ من الغموض على السياسة الفرنسية التي باتت تتسم شيئا فشيئا بعدم الوضوح، ويضع حلفاء فرنسا المقربين في حيرة،فهل الجمهورية الفرنسية على وشك أن تفقد الشمال؟
*محاولة لنيل زعامة في "شرق أوسط" في حالة تفكُّك.ولا يخفى على أحد أنه بعد الحملتين العسكريتين حيث زحفت جيوش العالم أجمع على أشهر عاصمتين للعالم الإسلامي، بغداد ودمشق،فإن هذا العالم لم يبق منه إلا ظله، إذْ أصبح أقزامُه وُلاةَ أمره! وكم من رؤساء جاؤوا خاضعين، مكلفين بتولي عار تقديم الولاء لإسرائيل دون خَجَل.
لم يسبق قطُّ للعالم العربي أن وصل إلى مثل هذه الدرجة من الانحطاط، وذلك على الرغم من وجود جيوب مقاومة محاصَرة من جميع الجهات مازالت تقاوم ببطولة وشهامة وتَفانٍ.
في هذه الظروف الملائمة، تستيقظ الأطماع الاستعمارية لفرنسا، ويستجمِع ماكرون قواه لاستثمارها في كل مكان، فها هو في لبنان الشهم، يجمع حوله كل الطبقة السياسية، يعطي الدروس، ويُوبِّخ ويُهدِّد عند الاقتضاء، ودون تمهيد، يبدو لبنان وكـأنه أصبح تحت الحماية الفرنسية.
نرَى ماكرون حاضرا أيضًا في البحر الأبيض المتوسط، عاملا على إيقاظ الأطماع وتحريض الفاعلين على أن يضرب بعضُهم بعضًا.نجده حاضرا كذلك في ليبيا، كامِنًا خلف الإمارات العربية المتحدة ومصر، وفي الساحل هو القائد الوحيد تقريبا الماسك بزمام الأمور.
يجب إذن أن لا ننخدع، فماكرون يحلم بطبعة جديدة من المغامرة الاستعمارية، لذلك نجده يحاول إيقاظ العداوات والخصومات الحضارية لجذب حلفاء تقليديين لنهجه كانوا إلى عهد قريب غير متحمسين كثيرا لهذه النزعة نحو التدخل في شؤون الآخرين، فهل ينجح في ذلك؟ أمر محتمل جدا؛ لأن رسائل التضامن مع فرنسا قد تواردت من كل مكان، من الولايات المتحدة الأمريكية وأروبا .
لا بد من الإشارة إلى أنّ الرجل الأبيض، بعد الثورة الصناعية والغزو الاستعماري الواسع المترتب عليها، قد تَكَوَّن لديه شعورٌ بالتفوُّق، وقد يكون ذلك بارزًا للعيان أحيانا أو كامنًا في مُخيِّلة القادة الغربيين جميعا، يغذي هذا الشعورُ أطماعَهم بل واحتقارهم أيضا لجميع الشعوب الأخرى، فهم بحاجة إلى هزيمة قاسية تشفيهم من هذا الداء.
وكان وهْمُ التفوق قد تبدَّد إلى حد ما، بعد الهزائم في فيتنام والجزائر وحديثًا في أفغانستان حيث الجيوش الأمريكية تستعد للانسحاب خِفيَةً.
سيزول هذا الشعور تماما عندما تتمكن الدول من اكتساب المعرفة اللازمة لترقية وتحسين عتادها والوصول إلى مرحلة القوة الرادعة ، وقد تم ذلك في الصين، والهند، وكوريا الشمالية، وباكستان، وكلما توسعت الدائرة أُرْغِم الغربُ على احترام سيادة الأمم.
يتحالف الغربيون في كل مكان من أجل تأخير هذه اللحظة، ولكنه جهد ضائع، فاللحظة قادمة حتمًا، لقد نجحوا في غزواتهم الاستعمارية بمدافعَ ورشاشاتٍ ضد قِسِيٍّ وسُيُوفٍ، ولا مُسوِّغ للاعتزاز بتلك النجاحات، ففي ذلك نوع من الجنون؛ لأن "الغالبَ دُون مواجهة الخطر،منتصِرٌ دون مَجْد"، أي أنّ نصره غيرُ مستحَق.
ينوي ماكرون إعادة صياغة الإسلام وتكييفه بطريقة تناسب فرنسا، إنها سذاجة أو تنكُّر أو جَهْل بطبيعة الديانات السماوية، ماذا سيقترحه على مُسلمِي فرنسا؟، هل سيقترح عليهم نصًّا جديدا مزيفا ؟ أمْ سيرغمهم على البِدعة باستحضار ممارسات التفتيش البائسة.
لقد حدث كل ذلك وخرج منه الإسلام ناصعا، إسلام واحد لا يتجزأ. وآيات ماكرون الشيطانية ستظل شاهدة على فقدان الثقة به.
يشن ماكرون حملة مسعورة على مُسلمِي فرنسا، ويبدو أنه نسي أنهم أحفاد أولئك الذين ساعدوا فرنسا على النهوض بعد انهيارها تحت الهجوم الشرس للجيش الألماني وبعد هدنة 22 يونيو التي أفضت في نهاية الأمر إلى الجلوس حول طاولة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ولم تكن جنسيتهم الفرنسية ممنوحة، وإنما كانت مستحقة بجدارة.
يجب أن يفهم ماكرون أن المسلمين ليسوا أولَ من جاؤوا يدقون بابَ فرنسا للإقامة فيها، إن فرنسا وهي أمة قديمة قد استنفدت كل ثرواتها الطبيعية ، لا تستمد عظمتَها ورخاءَها إلا من استغلال الموارد الطبيعية للعالم الإسلامي، وإغراق أسواقه بمنتجاتها، تنتهج اليوم سياسة الانكفاء على الذات ورفض الآخر، وستكون بذلك الخاسر الأول، يكفي أن تتشاور الدول الإسلامية وتنسق فيما بينها وتتجاوز الانغلاق على النفس وتعتمد في المقابل سياسة الرفض نفسها تجاه فرنسا. إن العالم واسع، ولا تزن فرنسا في حركة التعاون الدولي إلا النزر القليل.
وعلى كل حال فقد أعلن ماكرون الحرب، ويجب على العالم الإسلامي أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار، ويتحد من أجل تفادي تَكرارٍ مأساويّ للتاريخ.
بقلم/ عبد الرحمن ولد سيدي حمود
ترجمة/ إسلمو ولد سيدي أحمد