أحالت اللجنة البرلمانية "الحماسية" تقريرها إلى الجمعية الوطنية التي أحالته كما هو متوقع، بسرعة ودون حتى تصحيح أخطائه الإملائية وغيرها -"حبشه مطلوصه من فم اسبع"!- إلى وزارة العدل لمتابعة "المتورطين" في ملفات الفساد المفترض.
إلا أن شوائب عديدة هزت مصداقية هذا التقرير -فما بني على باطل فهو باطل- ومن هذه الشوائب:
١- تأسيس اللجنة البرلمانية بمبادرة من المعارضة بقيادة "الإخوان" (14 نائبا من أصل 24 تبنوا هذه المبادرة في الأصل). فمن المعروف أن هذا النوع من المناورات في النظام الديمقراطي، عمل سياسي (وتكتيكي)، تقوم به المعارضة للتشويش إعلاميا وشعبيا على الحكومة وزعزعة تماسك الأغلبية، كما أنه -في العادة- لا تترتب عليه خطوات عملية. فالمبادرة إذا في الأصل مجرد مناورة سياسية ميؤوس من نجاحها وليس لها أي هدف إصلاحي موضوعي، فلو كانت اللجنة مبادرة "طبيعية" من الأغلبية لكان الأمر مختلفا تماما،
٢- لقد تم تبني المبادرة من طرف الأغلبية في أجواء السجال السياسي المشحون حول "المرجعية" داخل الحزب الحاكم، مما يعني أنه يمكن اعتبارها إحدى أهم أدوات حسم السجال السياسي المذكور،
٣- أغلبية البرلمانيين الذين مرروا المبادرة دافعت عن المشاريع التي تحوم حولها اليوم شبهات الفساد، وشرعتها
٤- أغلبية البرلمانيين الحاليين طالبوا أمسِ كتابيا، وبأشكال مضحكة-"ملكية" غالبا، بتمديد ما يسمونه اليوم "عشرية الفساد" بعشرية ("فساد") إضافية!...
٥- ضمت اللجنة البرلمانية أعضاء معروفين بعدائهم المعلن للرئيس السابق، وطبعا تؤكد هذه الملاحظة النقطة رقم ٢
٦- كما ضمت اللجنة أعضاء سجلاتهم التسييرية غير ناصعة تماما(!) فيما يتعلق بالفساد في التسيير العمومي
٧- تم انتقاء ملفات التفتيش بطريقة موجهة يستشف منها البحث عن توريط الرئيس السابق وبعض معاونيه السابقين، دون آخرين، وبطريقة فجة ومكشوفة في بعض الأحيان، كما لم تحترم اللجنة أبسط أدبيات السرية المعهودة في هذا النوع من التحقيق، مما يؤكد مجددا النقطة رقم ٢
٨- استعانت اللجنة بثلاثة مكاتب دراسات أجنبية (كلها غربية)، في مواضيع تتعلق بسيادة البلد وشؤونه الأكثر حساسية، دون أن تشرح المعايير الفنية فيما يتعلق بالأمن السياسي لهذه المقاربة، مما يعني أن فرضية "التأثير" من قوى خارجية (أو داخلية ) على عمل اللجنة -بصفة ذكية وخفية- تصبح واردة بالفعل
٩- انتقدت اللجنة كل الأجهزة الرقابية الرسمية ولم تستثن منها إلا البرلمان الذي أجاز أغلب أعضائه الحاليين الصفقات "المشبوهة" والذي انبثقت منه اللجنة نفسها،
.١- التخوف الوارد من أن يشكل العدد القليل للملفات التي تم انتقاؤها حصريا، محاولة من أوساط فساد "العشرية" و"العشرينية" و"الثلاثينية"، لتحميل عدد محدود من الموظفين أوزار مشكلة مجتمعية متجذرة، وذلك بأقل ثمن بالنسبة لهذه الأوساط، سبيلا إلى مواصلة نشاطها المفضل دون تشويش على المدى القريب -على الأقل-
خلافا للسلطة التنفيذية التي يمكن لأي "عامل غير دائم" أن يتبوأ فيها أعلى المناصب ويتصرف من هذا المنطلق فسادا ماليا وإداريا -بدوره-، أو السلطة التشريعية التي لا تتطلب أكثر من مراوغة انتخابية لا تزيد على أسبوعين يمكن خلالها للمترشح الاستعانة بالقبلية والطائفية والجهوية والمال الملوث، فإن السلطة القضائية لا يمكن ولوجها إلا من خلال مساطر قانونية واضحة ومؤهلات مهنية حقيقية، وهي -ولله الحمد- مستقلة عن السلطتين سالفتي الذكر.
لذا، ففي تصوري، أنه أمام هذه السلطة القضائية فرصة ذهبية لمساعدة البلاد والعباد في التصدي لمشكل الفساد المزمن الذي وقف حجر عثرة في وجه تنمية الوطن والقضاء على مظاهر البؤس والتخلف والتراتبية الاجتماعية، وذلك من خلال "الاستئناس" بما جادت به قرائح مكاتب الدراسات الغربية الثلاث بتوجيه سياسي من أعضاء اللجنة و "أصدقائهم"، لأن التقرير سياسي في المقام الأول ولا علاقة له بالمساطر القانونية. فعمل اللجنة يمكن اعتباره مجرد إشعار رسمي بوجود احتمالات خروقات تتعلق بالفساد داخل أجهزة الدولة. لذا يمكن للقضاء على سبيل المثال أن يختار عينة عشوائية جديدة- بالمعنى الإحصائ العلمي- من الوزارات والمؤسسات والمشاريع التنموية وانتقاء ملفاتها بصفة عادلة وغير موجهة، للوقوف بمهنية وحياد وتجرد على حقيقة ظاهرة الفساد المقيتة في كل الأجهزة الرسمية.
فبهذه الطريقة، تصحح السلطة القضائية كل المسار من درنه السياسي -وطنيا كان أو أجنبيا- و تُطمئن كل من سيحكم عليه غدا أنه يستحق العقوبة بشكل غير قابل للتشكيك طبقا لقواعد العدل والإنصاف وتحافظ على سمعة البلادخارجيا وعلى كرامة موظفيها