في بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأ مفكرون غربيون مناوئون للعرب والمسلمين، من أبرزهم "جون ديميتري نيگروبونتي"، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية الأسبق والفيلسوف الفرنسي اللامع "بيرنار هانري ليفي"، في التنظير لمفهوم "الفوضى الخلاقة" داخل الفضاء العربي-الإسلامي.
ولم يخف قط أحد من هؤلاء نواياه بخصوص تدمير البنى الإجتماعية والثقافية والاقتصادية لمنطقة "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" ومحاولة تشييد كيانات "لقيطة" على أنقاضها، تدين بالولاء لما يوهمون العالم بأنها قيم غربية صرفة، من حريات اقتصادية وفكرية وسياسية.
ففرضية المروجين لفكرة "الفوضى الخلاقة" الأولى كانت ولا تزال إيهام ( بل إقناع!)العرب والمسلمين على أن هذه القيم غريبة عليهم ويجدر بهم تعلمها على أيدي من يناصبهم العداء جهارا، متجاهلين عن قصد ما تشهد عليه "القوقاز" و"البلقان" و"صقلية" و "لي كوت دي مور" و"الأندلس" وغيرها، فيما يتعلق بالجذور الفكرية والأخلاقية والعلمية الحقيقية لحضارة ما حول البحر الأبيض المتوسط.
لقد وظف هؤلاء مقاربات مركبة تتخذ من المعرفة الدقيقة لعلقليات المجتمعات المستهدفة وإخضاعها لآخر نتائج أبحاث العلوم الإنسانية واستغلال آخر صيحات تقنيات التواصل الاجتماعي، وقودا لعملية تدمير ذاتية في ظاهرها.
لست من الذين يأخذون على مثقفي الغرب وسياسييه استماتتهم في الدفاع عن ما يتصورونه مصالح حضارية ومادية حيوية لمجتمعاتهم، بل تعجبني مظاهر الذكاء العلمي والدهاء السياسي في بعض ما يقدمون، لكنني أحتقر سذاجة بعض المفكرين والساسة العرب الذين يتحالفون مع هؤلاء في هذا الإطار، اعتقادا منهم أن شيئا إيجابيا يمكن أن ينجم عربيا أو إسلاميا عن هكذا تحالف أعرج...
خلال السنوات الأولى من عشرية القرن الماضي الأخيرة، اجتاحت موجة "الربيع العربي" بلادنا، بدفع رئيسي من "الإخوان المسلمين" المحليين وحلفائهم وقتها ولم يكن أحد يتصور أن بلدا مثل موريتانيا سيصمد أمام حريق جاء على الأخضر واليابس في دول ذات مقومات بشرية وعسكرية واقتصادية أضعاف ما تتوفر عليه بلادنا.
لقد كنت من الشاهدين على بعض تفاصيل هذه الحقبة الحرجة والتي كان احتمال الانزلاق نحو المجهول فيها أكبر في بعض الأحيان من فرص الاستقرار والسلم الأهلي...
وإحقاقا للحق، فإن الفضل في تجنيب هذه البلاد هشة البنية الإجتماعية وحساسة الموقع الجيوسياسي، ويلات "الفوضى المدمرة"، يرجع بالأساس إلى التكامل والتفاهم والثقة بين ضابطين ساميين ورجلين سياسيين بامتياز: الرئيس الحالي السيد محمد ولد الشيخ الغزواني والرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز.
وأورد هنا لحظتين فاصلتين في تاريخنا القريب: حادثة "رصاصة اطويله" والاستحقاقات الرئاسية الأخيرة.
لقد كنت شاهدا على عمق الصداقة والثقة الذي كان يطبع العلاقات بين الرجلين، ولا أريد أن أدخل في تفاصيل قد تحرج الرجلين في الوقت الحالي، وقد لا يتسع المقام للإحاطة بها بصورة مرضية...
عندما أعلن فوز رئيس الجمهورية الحالي في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، انفرط عفويا -تأكيدا على أهمية العلاقة بين الرجلين- عقد مما تصورته "ابتيتا تاما" ليتضح بعد تمحيص أهل الذكر في الموضوع أنه مجرد قطعة "بوسويرية" مخجلة على الصعيد الأدبي، وهذه النتيجة لم تفاجئني تماما ، لأنني لم أجرؤ على هذا المقام أوغيره من مقامات "الغنى" الجميلة، طوال حياة آثرت تخصيصها لأمور أكثر أهمية بالنسبة لي.
ولهذه القصة -على الأقل- مغزى مفاده أنه كان لدي حدس بأن أمن واستقرار موريتانيا -على المدى القريب- مرتبطان إلى حد كبير بالمحافظة على الشراكة التكاملية بين الرجلين، كما تشهد على أنني شعرت وقتها ببوادر خطر يتهدد هذه العلاقة النادرة.
لقد أقدم برلمان منتهي الصلاحية لأسباب أذكر منها الإجماع المكتوب لأغلبيته على مطالبة الرئيس السابق بالترشح لمأمورية ثالثة في تحد سافر لمقتضيات دستور البلاد واصطداما رأسا بمفهوم التناواب السلمي على السلطة، حجر الزاوية في النظام الديمقراطي.
وازدادت نهاية الصلاحية هذه وضوحا، عندما قرر نفس البرلمان -بمعارضته هذه المرة وهذا لعمري جرم سياسي لا يغتفر!- تشكيل لجنة برلمانية "حماسية" لتحقيق في ملفات تم انتقاؤها خصيصا لتلطيخ وتجريم الرجل الذي كانوا يتباكون عليه ويحلفون أيمانا غليظة رهانا على بقائه في السلطة.
إنها "اجوغة" بالمفهوم الشعبي الهزلي و"الجوقة" بالمفهوم الفني وهي التي بإمكانها عزف أية "قطعة موسيقية"، عند الطلب.
لقد وأدوا الفكر والسياسة والأخلاق في حفرة واحدة، دون استحياء من نظرات الحيرة والذهول التي انتابت بنات مو ريتانيا وأبنائها، البالغين والقصر...
هل لا زال بالإمكان إخراج البلاد والعباد -بهدوء وتبصر- من هذه المتاهة الخطيرة على انسجامها الاجتماعي ومصالحها المادية والمعنوية الأخرى؟
نعم، لا زال بالإمكان تدارك ما يمكن أن يتطور -لا قدر الله- إلى "ربيع برلماني"، من خلال الابقاء على المقومات السياسية لحقبة الاستقرار التي ميزت العشرية الماضية، وعلى رأسها إنقاذ الصداقة الجميلة والثقة المتبادلة بين رئيس البلاد الحالي وسلفه.
وهنا أقول لهما كأستاذ جامعي وكموظف سام سابق أن ما يجري بينهما الآن يضر إلى حد كبير بسمعة وكرامة البلاد، إقليميا ودوليا، في ظرف دولي يعرف الرجلان المخضرمان مكامن أخطاره...
إنني سأعتبره أهم إنجاز في حياتي لو أتيحت لي فرصة المساهمة ولو بشيء بسيط جدا في رأب الجفاء الذي لحق بالعلاقة المتميزة التي جمعت الرجلين، بإيحاء ممن لايريدون الخير للبلاد ولا لهما...