جاء خطاب الوزير الأول لهذه السنة كعادته مقنعا معززا بالأرقام والأدلة الدامغة من الإنجازات على الواقع، وكانت ردوده معبرة عن خبرته العميقة وكفاءته واطلاعه الواسع وإحاطته بأدق التفاصيل في مختلف قطاعات الدولة؛ فلم يترك إشكالا في ذهن المواطن حول تلك المغالطات والدعايات المتهافتة
التي طالما تناولتها بعض المنابر البائسة؛ فقد تمكن برحابة صدر وسعة اطلاع - بعيدا من التشنج والتصنع - من تقديم الردود الشافية على كل المداخلات بما فيها تلك التي تغذيها البرامج الحزبية والمآرب الذاتية والخلفيات الإيديولوجية؛ بل إنه تجاوز تلك الإشكالات التي أثيرت في قبة البرلمان فأجاب عن بعض الملاحظات التي تثار من حين لآخر من قبل هذا الطرف أو ذاك بحيث تجد لها في الشارع آذانا صاغية؛ حتى ولو لم يجد النواب الوقت الكافي لطرحها أو كانت خارجة عن اهتماماتهم.
لقد تمكن الوزير الأول السيد يحيى ولد حدمين من تقديم عروض شافية تعرض من خلالها إلى مقارنة واضحة بالأرقام، فكانت المؤشرات واضحة جلية تشي بمدى التقدم والتطور المتسارع الذي شهدته البلاد خلال حكم السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز في مجالات التنمية المختلفة كالعدالة والدفاع والتعليم والصحة والإعلام وحقوق الإنسان والتنمية الزراعية والحيوانية والمياه والبيئة والطاقة والاقتصاد والمالية والإسكان والنقل والصيد والمعادن والشغل إلخ؛ فضلا عن الإختراقات التي حققتها بلادنا في السياسة الخارجية التي حوٌلتها من دولة الهامش الجغرافي والديمغرافي والسياسي والاقتصادي إلى بلد فاعل شريك في الرأي وحاضر في صنع القرار العربي والإفريقي والإسلامي والدولي.
لقد استطاع الوزير الأول أن يخرس تلك الأبواق التي طالما اصطنعت الغيرة والدفاع المستميت عن المصالح العليا للبلد وعن بيع ما تسميه - عبثا ومغالطة - بالمدارس؛ فتباكت على بيع تلك البنايات المتهالكة؛ فأوضح - ردا على تلك المغالطات - بدقته المعهودة الإجراءات والظروف التي تمت فيها الصفقة بشفافية متناهية؛ وشرح بالأرقام كيف تمكٌنت الحكومة بسياستها الرشيدة ونظرتها الثاقبة وترشيدها للموارد من بناء عشرات المؤسسات التعليمية بجزء من ثمن تلك البنايات المهجورة التي أصبحت تشوٌه المشهد الحضاري للمدينة؛ وهكذا كانت ردوده في مجالات التنمية المختلفة؛ فقد تضاعفت عمليات التنقيب والحفر واستغلال المياه بحيث تجاوزت كل الإنجازات التي قدمتها الأنظمة السابقة مجتمعة خلال عمر الدولة الموريتانية الحديثة وتم تزويد عشرات المدن والقرى بالمياه الصالحة للشرب في استغلال فريد للمصادر المائية سواء المطرية منها أو الجوفية.
وشمل عرضه الجوانب المختلفة لعملية التنمية؛ فقد تمكنت موريتانيا من بناء مطار بالمواصفات الدولية واقتناء طائرات نقل للخطوط الجوية الموريتانية وبناء عشرات المستشفيات والجامعات ومعاهد التكوين الفني وتزويد مختلف المؤسسات الصحية والتعليمية بالتجهيزات اللازمة واكتتاب آلاف العناصر البشرية للتخفيف من البطالة وتوفير الكادر الطبي والتعليمي والفني، وفرضت شروطها على الشركاء الأجانب في مجالات الصيد والمعادن والاستثمار؛ وتم توزيع آلاف القطع الأرضية على المواطنين الذين ولدوا في أحياء الصفيح ووصلوا فيها سن البلوغ ولم يستفيدوا من الحصول على قطع أرضية قابلة للسكن؛ حيث ترافق توزيع تلك القطع الأرضية مع توسع في البنية التحتية في تلك المناطق التي تم ترحيل السكان إليها؛ ليزيد الأمر من أعباء التنمية ومتطلبات العيش الكريم ويثقل بالتالي كاهل الدولة بأعباء إضافية دأبت الحكومات السابقة إلى تأجيل البت فيها ومن ثم تحاشي الوقوع في الإكراهات المترتبة عليها، ليدفع المواطن البسيط ثمن تلك السياسات والبرامج التسويفية فقرا وتهميشا وجهلا.
وجاء برنامج حكومة الوزير الأول شاملا لملفات عديدة وتناول مختلف مجالات التنمية؛ وكانت أسئلة النواب منضبطة أحيانا وشخصية وانتقائية وغريبة طورا آخر؛ لكن ذلك لم يمنع السيد يحيى ولد حدمين من التعاطي معها بأسلوب يمزج بين سعة الصدر والهدوء والاعتزاز والثقة في صحة الخطط التنموية وأسلوب إدارة الحكم الذي رسمه بتوجيهات من فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
وقد اتبع في تلك الردود أسلوبا مميزا يستأنس بالطرفة أحيانا وبالنماذج المشابهة والأمثلة الحية من دول العالم وحتى بالتهكم أحيانا على الطريقة التي يتبعها الخصوم في مغالطة الرأي العام؛ فضلا عن قدرته الفائقة على الاستئناس بتجارب الأمم وتوظيف ثقافته الواسعة لتعضيد المشاريع العملاقة التي أنجزها لمحاصرة فكر المتلقي حتى يستسلم للإقناع بالوقائع والحقائق أو يغرق في وحل أوهامه تمثلا بقول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ ** نصيب ولا حظ تمنى زوالها
وما ذاك من بغض لها غير أنه ** يرجو سواها فهوى يهوى انتقالها
خطري بن عبد الرحمن