الوحدة الوطنية أهم مقومات المجتمع وأبرز رابطة تجمع أبناء الوطن الواحد، ولا تقوم هذه الوحدة بصورة أساسية ما لم تقم على حب الوطن والانتماء له والدفاع عنه ضد أي اعتداء خارجي بأي شكل من الأشكال، ولا يتحقق ذلك ما لم يسد الحب والتسامح والوئام والتعايش بين أفراد المجتمع وشرائحه.
ولا أبالغ إن قلت إن الوحدة الوطنية هي البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا، ولكن هذا البنيان حال تعرض إلى بعض الآفات التي يكون دافعها حظوظ النفس ربما يضعف ويصبح هشا أمام الأزمات.
ولقد عانينا كمجتمع من العنصرية واللمز والتنابز بالألقاب فترة من الزمن، إلا أن هذه الظاهرة انتهت وفهم الجميع أن الوطن للجميع وأننا كلنا في سفينة واحدة نعيش جميعا أو نغرق جميعا، وأن هذه الأمراض تفتت أبناء الوطن الواحد وتجعل قلوبهم شتى وإن كان يجمعهم الوطن الواحد!
فهذا صدد أشارككم أبيات من قصيدة للعلامة والقاضي ابّ بن ان تغمده الله بواسع رحمته وأدخله فسيح جناته، يحث فيها على الوحدة ونبذ الفرقة والاختلاف والتمسك بدين الله الحنيف ..
أيا إخوتى في الله هاتى نصيحتى إليكم سأسديها لأغتنم الأجــرا
فإنا لأنا مومنــون لإخــــوة لزاما كما المولى بذا أنزل الذكرا
وإنا كعين ما لها ببياضهــــا غنى عن سواد لا ولا العكس فالحذرا
بقاء كلا اللونين بالعين لازم لإسداد خدمات بها خبئت ذخرا
وإلا لما أدت وظيفا ولم تكن سوى علة في الجسم تستوجب السترا
ألا يا حماة الدين بالدين ذكروا فإن أخا الإيمان تنفعه الذكـــرا
فأمتنا في الآى يا قوم أمة بواحدة موصوفة طبق ما يقرا
وخصت بدين الحق أسمى ديانة يطارد يسراها لإبعاده العســـرا
صدعت بذا نصحا فإن يؤت أكله فحسبى وإلا كان لى بعد ذا عذرا
ألا سدد المولى خطانا بمنـــه وجنبنا العسرى ويسر لليســـرى
ففي أي مجتمع تتعدد الولااءات والانتماءات الإثنية، لكن لا بد من قاسم مشترك يجمع تلك الانتماءات، ليتقدم عليها الانتماء والولاء للوطن.
وتفسير مصطلح «الوطنية» قد يختلف في فهمه لدى البعض، حيث يرون أنه مشتق من الوطن، وآخرون يرون أنه يعني الروح والثقافة الوطنية. ولما كانت ولا تزال الانتماءات القبلية والشرائحية مؤثرة في حياتنا الاجتماعية والسياسية، فإن تأثيرهما كبير على الوحدة الوطنية.
ويمكن أن يكون ذلك التأثير إيجابياً أو سلبياً، فالانتماء القبلي أو الشرائحي أمر طبيعي في المجتمعات العربية والإفريقية، ولكن بعد قيام الدولة المدنية في إطار الدستور والقانون، أصبح الواجب أن يكون الانتماء الأول لهذا الوطن.
ثم تأتي بعد ذلك الانتماءات الأخرى، والذين يقدمون انتماءاتهم الإثنية على الانتماء للوطن، يضربون الوحدة الوطنية في الصميم.
وقد يتحدثون عن الوحدة الوطنية كالشعار يخفى خلفه نفساً قبلياً أو شرائحياً، وهنا يكمن الخطر، وكثيرون أيضاً يتحدثون عن الوحدة الوطنية ويعملون على أرض الواقع لهدمها. فلا أحد يقول إنه ضد الوحدة الوطنية، لكنه في حقيقة ممارسته السياسية والاجتماعية أو غيرها، يناقض بسلوكه مفهوم الوطنية ومعناها الحقيقي.
نعرف مدى معاناة الذين يتمردون على تقاليدهم الفئوية ليركزوا على الانتماء للوطن أولاً، لكن هذه ثقافة لا بد من طرحها حتى لو كان هناك تحدٍّ، لأننا في مرحلة تاريخية تتطلب تركيز الجهود على ترسيخ الدولة المدنية وتعميق الانتماء لها، ليس على حساب الانتماءات الأخرى، ولكن ليتقدم الانتماء لها على تلك الانتماءات.
من هنا نستطيع أن نبدأ بترسيخ وتأكيد الوحدة الوطنية، ثم تطوير مفهومها قولاً وعملاً. ويعتقد الكثيرون أن التحديات والأزمات تؤكد وتؤدي إلى تحقيق الوحدة الوطنية.
وقد نختلف مع هؤلاء، حيث يجب أن تتحقق الوحدة الوطنية في ظل الأوضاع الطبيعية التي يعيشها المجتمع، ولا ينبغي أن ننتظر التحديات والأزمات لتؤكد وجودها.
وفي بلدنا الذي يعيش مخاضاً على جميع المستويات، وفي فترات الضعف والفساد، تظهر على السطح السلبيات والنزعات الإثنية، فيخرج علينا بعض أدعياء الوحدة الوطنية ليرفعوا هذا الشعار، وفي حقيقة الأمر يعملون ضده.
وسواء كان أولئك يدركون أو لا يدركون خطورة فعلهم وتأثيره، فإن تيار الإصلاح والوحدة الوطنية الحقيقي يجب أن يثبت وجوده، ولا يسمح لأدعياء الوحدة الوطنية بتخريبها.
فعندما يمر بلدنا في بعض الفترات بأزمات سياسية أو اجتماعية أو غيرها، نرى الجميع يرفع شعار الوحدة الوطنية، وهذا شيء جيد، ولكن أعداء الوحدة الوطنية قد يختفون وراء الشعار ليحققوا مآربهم، وهذا يثير سؤالاً هو: هل هناك بالفعل من هم ضد الوحدة الوطنية؟
يتحدث بعض عن أنه يجب وضع النقاط على الحروف في بحث هذه القضايا الأساسية والحساسة، وعلينا أن نتحدث بصراحة عن الواقع الذي نعيشه، وهذا كلام في محله وملاحظة مهمة وصحيحة.
ويمكن أخذها بعين الاعتبار عندما يعقد مؤتمر وطني حول موضوع الوحدة الوطنية أو يكتب بحث عنها، ولكن في حدود مقال لينشر في الصحافة، فإن الحر تكفيه الإشارة، ونحن نتحدث لشريحة من الناس تدرك ماذا نعني وماذا نريد من طرح هذا الموضوع في هذا الوقت.
نقول وبوضوح إن واقعنا يعج بالكثير من الممارسات الخاطئة تحت شعار الوحدة الوطنية، وحتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود، لا بد من شرح وتوضيح حقيقة هذا والتعامل معه في واقعنا، ولا ندعي في الوقت نفسه حق الإفتاء الصحيح في هذا الموضوع، ولكنها وجهة نظر ورأي نطرحه وهو قابل للنقاش.
فلن ينعم مجتمعنا بلحمة وطنية صحية إلا في حال البدء بتحرير السياسة من السيطرة الشمولية، من الوصاية والنمطية ومن سيادة الرأي الواحد والصوت الواحد، بما يعني التطلع لتقديم تنازلات جريئة على صعيد المواطنة والعدالة وسيادة القانون، والقبول بالتعددية والاختلاف كالمقدمة لاغنى عنها لصياغة عقد اجتماعي متوازن يوفق بين بشر تتباين همومهم ومصالحهم ويضمن للجميع حقوقهم على قدم المساواة في المشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة.
ونستغرب ممن يبدي حماسة متناهية للوحدة الوطنية وهو لا ينبس ببنت شفة عن ظاهرة الفساد وشيوعها مستسهلاً توحيد قوى الشرفاء مع مفسدين يسرقون ثروات الوطن ويهدرون مقدراته، فكيف يمكن البحث عن مقومات التعاضد الاجتماعي طالما يستمر التمييز الصارخ بين المواطنين ويبخس حق غالبيتهم في فرص متكافئة ويطاح بقيم الكفاية والنزاهة لصالح الولاءات والعلاقات المتخلفة والمحسوبية؟!.. وأي تماسك نبحث عنه في وطن لا يشعر فيه أغلبية أفراده بالأمان لمستقبل أبنائهم ويلمسون لمس اليد كيف تقتصر الامتيازات على فئة قليلة جداً من أصحاب النفوذ على حساب أغلبية ساحقة يكويها العوز الحرمان؟!..
فأن يقال أننا نريد وحدة وطنية أو نسيجاً مجتمعياً متماسكاً يعني فيما يعنيه العمل لتكون كل الانتماءات ما قبل الوطنية سواء القبلية أم الشرائحية هي الأضعف والأقل حضوراً أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء الى الوطن والثقة بالدولة ومؤسساتها الديمقراطية، هذا الأمر لن يكون حاسماً وسائداً إلا إذا اقتنع كل فرد بأن حقه مصان ومتساوٍ مع الآخر وأن ليس ثمة من يستطيع التعدي عليه كائناً من كان، فما شعور الانسان بالحرية والثقة بجدوى انتمائه لوطنه إلا صمام أمان التماسك الداخلي والقاعدة السليمة المشجعة كي تتجاوز القوى الاجتماعية والسياسية حساباتها الضيقة وتتكاتف في التصدي لتحديات التنمية.
أما مستقبل الوحدة الوطنية، فهو مرهون بفهمها، وإدراك مدى أهميتها، والعمل على تدعيمها، وهذه تحتاج إلى خطوات فعلية في مناهجنا وتعليمنا العام منذ المرحلة الابتدائية.
كذلك يتحمل أصحاب القرار في دولة مسؤولية في الإجراءات والقرارات التي يتخذونها، لتعزيز الوحدة الوطنية، إضافة إلى دور يجب أن يضطلع به المثقفون في مجتمعنا، فعليهم مهمة توضيح هذا المفهوم وتعميق الإيمان به.
وخاصة لدى أجيالنا الجديدة التي ستتحمل مسؤولية بناء مجتمعاتنا في المستقبل، ولا نريد أن يشوه مفهوم الوحدة الوطنية وتطبيقاته لديها. فليس المطلوب التمسك بالشعار، بقدر ما يجب فهم مضمونه، وتطبيقه بما يحفظ لهذه المجتمعات تماسكها وقوتها، حتى تحقق تطورها وتقدمها وتحافظ على مكتسباتها.
حفظ الله موريتانيا وجعلها آمنة مطمئنة .
عبد الرحمن الطالب بوبكر الولاتي