المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية وثيقة عن تأثرات جائحة كوفيد -19على الاقتصاد الموريتاني .
وقد تناولت الوثيقة مختلف الموضوع من محاور مختلفة .
نص الوثيقة:
جاء فيروس كورونا المسبب لجائحة كوفيد-19 ليصب الزيت على النار المشتعلة في منظومة دولية انتهت مدة صلاحيتها منذ مدة، بين قطب كان مهيمنا (أمريكا) وأقطاب قوية لم تعد تقبل قيادة أمريكا للعالم، بدأت مظاهر هذا الصراع تتفاقم تحت عناوين مختلفة، الصراع على مرجعية الدولار، الصراع على الملكية الفكرية، الصراع على من يدير الإنترنت، الصراع على الهيمنة على الأمم المتحدة، الصراع على مناطق النفوذ في العالم…، بل وبدأت نذر صراع عسكري في الأفق بين أمريكا والصين، لينتقل العالم من حالة النظام المستقر إلى اللانظام، في وقت يتشابك فيه العالم بفعل عولمة الاقتصاد مما يعقد الوضع.
ورغم أن تاريخ الأوبئة يكشف عن تأثيرها الصحي العادي والمحدود زمنيا، إلا أن التاريخ لا يمكنه أن يفيدنا بشيء في تأثيراتها الاقتصادية في عالم لا يمكن فيه بحال تطبيق “التباعد الاقتصادي”، فالانقطاع في وتيرة الإنتاج لم يعد يؤثر على المنتِج ولا على بلده فحسب بل أصبح تأثيره وبائيا وعلى امتداد العالم. وتراجع النمو في بلد ما أصبح يجر بذيله على بقية الأمم، فخطوط الإنتاج تتوزع عناصرها ومكوناتها بين قارات العالم الخمس، والصناعات التركيبية هي سمة هذا العصر وكل مكون منها يصنع في بلد أو قارة مختلفة.
غير أن تأثير كورونا لا يقتصر على ذلك فقد أدخل المرض عناصر جديدة أربكت المحللين الاقتصاديين، فحدوث انهيار في العرض وانهيار في الطلب في نفس الوقت جديد على الاقتصاديين والمحللين الماليين، ولم يعهد العالم اجتماع الكساد مع غلاء الأسعار، هذا المزيج الغريب من اجتماع المتناقضات هو الذي أدى إلى انهيار بورصات العالم وسيادة عمليات الهروب في وضع ضبابي لا قبل لأحد بفهمه، كما أن هذا التوقف الإجباري الذي فرضه المرض طعن الرأسمالية في مقتل، فبإمكان الشركات ومؤسسات القطاع الخاص أن تغلق شهرا، ولكن إذا زاد الإغلاق عن شهر فإن نتيجة ذلك هو الانهيار، لقد صممت المنظومة الاقتصادية العالمية على العمل المحموم والمستمر واستثمار عامل الوقت كمدخل إنتاجي أما أن يتوقف الزمن فذلك يعني موت الاقتصاد.
وقد تعود الناس في أوقات الأزمات أن يتوجهوا إلى قيادتهم، ولكن العالم الآن بلا قيادة، ومن يُتوهم أنهم يقودون العالم غارقون في أزماتهم و أولوياتهم الداخلية والمحلية.
إن كل هذه المعطيات تعكس خطورة الوضع وضرورة النظر إلى كورونا ليس باعتباره مرضا تقليديا، بل هو بحق مرض معقد ولا شك أن انعكاساته ستساهم في اضطراب الخطط و إعادة ترتيب الأولويات..
ونظرا لأننا في منظومة دولية معولمة فقد تشابهت ردود الفعل الدولية حتى الآن اتجاه الأزمة وأن اختلفت باختلاف قدرات السلطات العمومية والقطاع الخاص من بلد لآخر، وحسب حجم تفشي المرض، وحجم البني التحتية الطبية المتاحة، وقد ارتكزت ردود الفعل الأولية تجاه المرض على مجموعة من المحاور أهمها:
محور السياسات المالية: وخصوصا الدعم النقدي للأسر والأفراد والقطاعات والأنشطة الأكثر تضررا.
محور السياسة النقدية: وكان أهم مظاهره التدابير التي تقوم بها البنوك المركزية لضمان توفير السيولة، وتسهيل الإجراءات، وتخفيف القيود المتعلقة بسعر الفائدة، وتوجيه الإرشادات إلى المؤسسات المصرفية وغير المصرفية، لتقديم الدعم للأفراد والشركات من خلال القروض الميسرة وغيرها من الأدوات.
محور التعاون الدولي: من خلال تعزيز سلاسل الإمداد، وفتح التجارة بين الدول خاصة فيما يتعلق بتبادل السلع الغذائية والطبية، والعمل على تخفيف عبئ الديون وإعادة جدولتها، وتنويع المساعدات للدول الفقيرة حتى لا تتحول لبؤر للمرض.
أولا :كورونا وسيناريوهات الانتشار
بسبب الإجراءات الوقائية التي تتطلبها مواجهة فيروس كورونا، والمؤدية لوقف النشاط الاقتصادي، وللتأثيرات العالمية على الإنتاج والتجارة الدولية، يتوقع أن يشهد الاقتصاد الموريتاني سنة صعبة، بعد أن كانت التوقعات تقدر نموه بأكثر من 6%، وسواء تعلق الأمر بالإغلاق الجزئي للنشاط الاقتصادي الداخلي، أو إغلاق المعابر البرية والخطوط الجوية، أو تعلق بالفاتورة الصحية، فإن التداعيات المتوقعة مربوطة بسيناريوهات لانتشار الوباء عالميا، كما يمكن تصور تفاوت كبير في الأوضاع بين استمرار السيطرة عليه محليا وبدء تفش سريع للوباء ـ لا سمح الله- .أما السيناريوهات الكونية وتداعياتها الاقتصادية، فيمكن اختزالها في ما يلي:
السيناريو الأول (الأفضل):
انحسار الجائحة في النصف الثاني من عام 2020 ومع فعالية إجراءات السياسة المتخذة حول العالم في منع انتشار حالات الإفلاس بين الشركات، واتساع نطاق فقدان الوظائف، والتوترات المالية النظامية، فيتوقع انكماش (-2%) في 2020(-1.6%في إفريقيا جنوب الصحراء) و تعافي النمو العالمي في عام 2021([1]).
السيناريو الثاني (الأسوأ):
تفاقم الجائحة في النصف الثاني من هذا العام، مما يقود إلى فترة احتواء أطول، وتفاقم الأوضاع المالية، وزيادة الانهيارات في سلاسل العرض العالمية. ما يقود إلى نسبة انكماش عالمي أكبر يقدر أن تصل -6% عالميا و5%- في البلدان النامية والأسواق الصاعدة عدى الصين.([2])
وستتحمل البلدان النامية (من بينها بلادنا التي تقع في الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل) تبعات انسداد مسالك التموين والارتفاع الكبير لأسعار السلع الأساسية الذي ستشهده السوق العالمية، وتدهور أكبر في أسعار صادراتها من المواد الأولية لضعف الطلب العالمي.
السيناريو الثالث (الضبابي):
أن يستمر المرض ولكن في شكل موجات متعاقبة من الانحسار والانتشار وهو ما سيسمح على المدى المتوسط من التكيف معه وإعادة تشكيل المنظومة الاقتصادية العالمية وفق مقتضيات الوضع الجديد وهو ما سيؤدي إلى خسائر متناقصة مع الوقت، وسيسمح للاقتصاد الموريتاني بالتعافي التدريجي بالتوازي مع تحسن الوضع الدولي.
وسنتطرق في هذه الورقة لبعض التأثيرات على المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وكذا تلمس التأثيرات السياسوية والمنظومية في الاقتصاد الموريتاني.
ثانيا: التأثيرات الاقتصادية:
النمو:
أعلن صندوق النقد الدولي في آخر بياناته عن موريتانيا توقعا بتراجع النمو الاقتصادي إلى -2%، ويعتبر ذلك أمرا مفهوما في ظل التدهور المتوقع للقطاعات الرئيسية في الاقتصاد:
فالقطاع الأولي القائم في جزء كبير منه على تصدير الحديد والذهب والنحاس والسمك، ستعرف بعض فروعه تراجعا بفعل تراجع الطلب العالمي الذي سيلقي بظلاله على ضعف الصادرات، ورغم أن سعر الحديد الآن في وضع جيد: 90 دولارا للطن، فإن سيتي كروب[3] تتوقع انخفاض الأسعار خلال يونيو الجاري إلى 70 دولارا بسبب ضعف الطلب العالمي عليه.
وسيعرف القطاع المعملي (الصناعي) تراجعا بسبب ضعف الطلب الداخلي وزيادة أسعار السلع الوسيطة.
أما القطاع الخدمي الذي يمثل40% من تركيبة الناتج المحلي الإجمالي، كما تشكل مساهمته في النمو السنوي المساهمة الأبرز، وفي ظل معطيات الوضع محليا وعالميا، فإن تأثيرات الأزمة ستطال الكثير من أنشطته، بسبب الإغلاق أو التباطؤ، أو بسبب تأثيرات مدخلات التوريد أو العلاقة بها من جهة معينة، ويتأكد التأثير في القطاعات الفرعية النقل والسياحة والفنادق…
وقد كشفت الأزمة عن هشاشة الاقتصاد الموريتاني بسبب تضخم الوزن النسبي لقطاع الخدمات الذي كان تأثره بالجائحة كبيرا، كما كشفت الأزمة خطورة ضعف تدخل الدولة في قطاع الخدمات وخصوصا الصحة والتعليم.
المالية العامة:
بلغت موازنة 2020: 70 مليار أوقية جديدة، مع عجز قيمته 15 مليار أوقية جديدة، وأرجع وزير المالية محمد الأمين ولد الذهبي النسبة المرتفعة للعجز (5% من الناتج الداخلي الإجمالي) إلى زيادة مصروفات تمويل الإجراءات الاقتصادية والصحية المستعجلة من جهة ولتراجع المداخيل وتباطؤ النشاط وانكماش التجارة الدولية وإجراءات الإعفاءات التي أملتها الجائحة.وأوضح الوزير أنه ستتم مراجعةكافة الغرامات لزيادتها، وإضافة شروط على مسطرة اعتماد ممثلي الشركات الأجنبية بهدف منع التهرب من الضريبة وتخفيض نسب الخصم للحد من الدفع نقدا، ويبدو هذا توجها معاكسا لتحفيز الاقتصاد وتحمل الدولة جزء من كلفة الكساد المخيم على الاقتصاد.
ورغم استفادة الدولة من مداخيل معتبرة مرتبطة بالتعاون الدولي فيما يخص كورونا، فإن توظيف هذه المداخيل في أنشطة إنتاجية مازال دون المستوى فقد ذهب معظمها في تمويل أنشطة أمنية وصحية وبيروقراطية استهلاكية لا تضع احتمالا لإمكانية استمرار الأزمة لفترة طويلة، وهو ما قد يشكل ثغرة كبير على المدى المتوسط والبعيد.
وقد شكل تأجيل شركةBPلأنشطتها في مشروع حقل آحمييم، إلى زيادة الهشاشة المالية للبلاد، وإذا ما استمرت الأزمة فمن المتوقع حدوث تأجيل آخر وهو ما قد يشكل ضربة للكثير من الآمال في عودة الانتعاش للاقتصاد.
ورغم الدعوات الكثيرة لتخفيض أو إعادة جدولة الديون عن الدول النامية إلا أن الاستجابة لتلك الدعوات تبدو بعيدة المنال.
التجارة الخارجية:
تتوقع منظمة التجارة العالمية (أن تنخفض التبادلات التجارية في 2020 بشكل حاد في جميع مناطق العالم، وفي كافة قطاعات الاقتصاد)([4]) ويتوقع تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي”([5])، أن ينخفض حجم التجارة العالمية ب -11%, وسيكونحجم نمو الصادرات في الاقتصادات النامية”-9.6%).
وكانت روسيا – أكبر مصدر للقمح في العالم – قد فرضت قيودا على تصديره، قبل أن تسمح بتصدير شحنات متفق عليها، وأصدرت رومانيا – إحدى أبرز البلدان المصدرة للقمح – قرارا بحظر تصدير كافة الحبوبلقرابة شهر، لغير بلدان الاتحاد الأوروبي.
وحسب منظمةالأونكتاد فإن أكثر الدول تضررا هي الدول المصدّرة للنفط وغيرها من الدول المصدّرة للسلع، هذه الدول ستخسر أكثر من 1% من نموّها.
ولن تكون الدول النامية التي تعتمد على تصدير المواد الأولية بعيدة عن الأزمة بسبب الديون وضعف العوائد التصديرية جراء قوة الدولار: “إن احتمال وجود دولار أقوى في الوقت الذي يسعى فيه المستثمرون إلى البحث عن ملاذات آمنة لأموالهم، والارتفاع شبه المؤكد في أسعار السلع مع تباطؤ الاقتصاد العالمي، كل ذلك يعني أن مصدّري السلع الأساسية معرّضون للخطر بشكل خاص.” ([6])
وتشكل المواد الأولية هيكل الصادرات الموريتانية، مايعني وقوعها في التصنيف أعلاه بشكل مباشر، وتراجع قيمة الصادرات المشكلة من الحديد والسمك بشكل رئيسي:
تمثل الصادرات41% من الناتج الإجمالي المحلي، وتتشكل من الحديد: 731 مليون دولار (32% من الصادرات)، و 148 مليون دولار من النحاس (6% من الصادرات)، والذهب: 609 مليون دولار (26% من الصادرات)، والأسماك: 735 مليون دولار( 32% من الصادرات)([7]).
وتستحوذ الصين على أغلب صادرات النحاس وسويسرا على أغلب صادرات الذهب. أما الحديد فتتوزع وجهته على النحو التالي:
جدول (1): التوزيع الجغرافي لصادرات الحديد.
الصين
67%
ألمانيا
12%
إيطاليا
10%
فرنسا
3%
أخرى
8%
إلا أن الحجم الكبير نسبيا لفاتورةالمحروقات -وفي ظل التراجع الكبير لأسعار النفط-قد يساهم في تعويض تراجع العائدات من التجارة الخارجية، إذ تمثل نسبة المحروقات إلى جميع الواردات الموريتانية أكثر من 30% .
أوضاع البطالة والفقر:
توقع تقرير حديث لمنظمة العمل الدولية أن يشهد العالم تقليصا في الوظائف لنحو 200 مليون من الموظفين بدوام كامل في الأشهر الثلاثة التالية لصدور التقرير (من بينها شهر مايو).
وفيما يخص الدول ذات الدخل المنخفض إلى المتوسط (“ارتقت” موريتانيا قبل سنوات قليلة إلى فئة الشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل)، فإن أكثر الخدمات والورشات المتضررة تضم نسبة عالية من العمال ذوي الأجور المتدنية في العمالة غير الرسمية، مع وصول محدود إلى الخدمات الصحية وشبكات الأمان والرفاه التي تقدمها الحكومة. وقال التقرير: “بدون اعتماد سياسات مناسبة، يواجه العمّال خطر الوقوع في براثن الفقر وسيواجهون تحديات أكبر في العودة لأشغالهم خلال فترة التعافي.”[8]في حين قال البنك الدولي إن حوالي 49 مليون شخص قد ينجرفون إلى هوة الفقر المدقع خلال عام 2020.
وتوقعت المؤسسة الدولية أن يكون ما يقرب من نصف الفقراء الجدد (23 مليوناً) من سكان منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، كما يتوقع أن يضاف إلى أعداد الفقراء المُدقعين 17 مليوناً آخرين، في البلدان الأشد فقراً.
ولا نملك أرقاما وإحصائيات حديثة عن حجم البطالة والفقر في موريتانيا، إذ ( تعود آخر البيانات الوطنية حول الفقر في موريتانيا إلى سنة 2014 تاريخ إصدار المكتب الوطني للإحصاء تقرير “ملامح الفقر”، وهوالتقرير الذي قدّر نسبة السكّان تحت خط الفقر ب31 بالمائة)[9].
“وبحسب آخر تقرير للمكتب الوطني للإحصاء حول وضعية التشغيل والقطاع غيرالمصنف صدر عام 2017 فإن نسبة البطالة تصل 11.6%. أما آخر تقرير لمنظمة العمل الدولية صادر نهاية 2018 فيبين أن نسبة البطالة في صفوف الشباب في موريتانيا تصل31% فيما تصل البطالة للفئة بين 15 و24 سنة إلى 47 بالمائة. ويمثل من هم دون سن الأربعين في موريتانيا نسبة 90 بالمائة من السكّان”([10]).
هذه الأرقام مرشحة للارتفاع في ظل التأثيرات المتوقعة للركود الاقتصادي (-2%)، حيث من المعلوم أن نقطة واحدة من النمو تقابلها نقطتان من البطالة، ما يعني ارتفاع معدل البطالة إلى 16%، مع مراعاة أن معيار التشغيل المعتمد في الإحصاء الرسمي اعتبر العمالة في القطاع غير المصنف، وهي عمالة هشة جدا.
القطاع الخاص والاستثمار:
تتسبب الجائحة في عدم اليقين الذي يصيب القطاع العائلي وقطاع الأعمال، مما يضعف الطلب (الاستهلاك والاستثمار)، ويخلق حالة ركود، يحفزها تراجع العرض بسبب توقف الأنشطة الاقتصادية، وبسبب انقطاع بعض الواردات الاستهلاكية و الوسيطة. وهذا ما يعبر عنه محليا “بضعف حركة السوق”، ومن ثم توقف افتتاح الأنشطة الجديدة والاستثمارات.
على مستوى الاقتصاد الكلي، ترتفع المخاطر، مما يعني خروجا لتدفقات رؤوس الأموال والاستثمارات (على قلتها) أو تباطئ عملها، كما هو الحال في تأجيل استخراج الغاز من حقل آحمييم سنة كاملة، كما أن اقتصار الإنفاق الحكومي على الفاتورة الصحية ومعالجة بعض التداعيات الاجتماعية، وتأجيل المشاريع الاستثمارية سيضعف النمو ويزيد معدلات البطالة.َ
القطاع الغير مصنف:
يعتبر القطاع غير المصنف في موريتانيا قطاعا معتبرا من حيث استيعابه لآلاف العاملين وإعالته لعشرات آلاف الأسر، ويمتاز القطاع بهشاشته، وقد أسهمت الإجراءات الاحترازية في تأثره بشكل بالغ، ينطبق ذلك على سوق نقطة ساخنة والباعة الجائلين في الأسواق والمطاعم الصغيرة ومحلات المشوي وباعة اللحم الطازج على قارعة الطريق والحمالة في الأسواق والصرافات و”حلابة السماء”.
ولاشك أن الضربة التي تلقاها هذا القطاع بسبب عمليات الإغلاق، والكساد، والتراجع العام في وتيرة النشاط الاقتصادي سيكون دوره كبيرا في زيادة عدد الفقراء وتعقيد حياة الكثيرين، ورغم انه في بداية الأزمات قد يشكل التضامن الاجتماعي مخففا من وطأة الفقر والهشاشة إلا أن استمرار الأزمة سيجعل فئات كثيرة في وضع مكشوف وشديد الصعوبة قد تترتب عليه انعكاسات اجتماعية كارتفاع نسب الطلاق والجريمة والانحلال الخلقي إذا لم يتطور الوضع لما هو أكثر من ذلك.
الأمن الغذائي:
من المتوقع أن تحدث طفرة في الإنتاج الزراعي والرعوي المحلي بسبب الإجراءات التحفيزية التي ستجد الحكومة نفسها مضطرة إليها بسبب الصعوبات المرتبطة بالوصول إلى السوق الدولية للسلع الغذائية. كذلك سيشهد قطاع الصيد وخصوصا التقليدي إقبالا متزايدا على منتجاته، ودعما نوعيا من السلطات باعتباره أحد أهم ركائز الأمن الغذائي.
وإذا أحسنت السلطات إدارة منافذ التوزيع وشبكاته ووفرت بنية تحتية لنقل و تخزين المنتجات الغذائية في الداخل (مناطق تبريد وعربات تبريد متنقلة)، وزادت من التوسع الأفقي (المساحي) والرأسي (الإنتاجية) للزراعات المحلية واستحدثت زراعة نوعيات جديدة محليا فسيشكل ذلك دفعة قوية لقطاع مهم ظل منسيا لفترة طويلة في خطط البلاد. أما المواد الغذائية والاستهلاكية التي لا يمكن إنتاجها محليا فتتحكم فيها وضعية القطاع الخارجي بشكل كامل مما يزيد من احتمالات وجود تعقيدات بشأنها.
تحويلات الموريتانيين في الخارج:
من المؤكد حدوث انخفاض معتبر في تحويلات الموريتانيين في الخارج، حيث يعمل أغلبهم في القطاعات التجارية و الخدمية الأكثر تضررا من الجائحة، كما سيفقد الكثيرون منهم وظائفهم بسبب التوجه نحو التقليص لدى القطاعين العام والخاص، ولاشك أن انخفاض التحويلات سيؤدي إلى تراجع أحد مصادر العملات الأجنبية، وضياع تمويل بعض العجز في ميزان المدفوعات، وغياب تعويض النقص في الاحتياطات من النقد الأجنبي، فضلا عن تأثيره المباشر على الإنفاق الاستهلاكي العائلي والادخار والاستثمار والواردات إضافة إلى الإيرادات الضريبية، وستؤدي عودة العاملين المسرحين من بلدان المهجر إلى تفاقم البطالة وزيادة الطلب على الوظائف المحلية..
ثالثا: ملاحظات ختامية:
– سيناريو السيطرة على المرض داخليا، سيساهم في تقليل التأثيرات السلبية على القطاع غير المصنف، وعلى النشاط الاقتصادي عموما، لكن القطاعات الرئيسية المتأثرة بالطلب العالمي، أو المرتبطة بالتوريد ستعرف انكماشا (وهي لب الاقتصاد الرسمي).
– انقسمت إجراءات الحكومة إلى تحفيزات للاقتصاد من خلال دعم السيولة في القطاع المصرفي، وإجراءات لمواجهة نقص العرض المتوقع ودعم الطبقات الهشة، ولكن لا تبدو الإجراءات فاعلة بشكل كاف، ولذلك فشلت السيطرة على الأسعار وتوفير المخزون من الغذاء والدواء.
– تواجه الحكومة حقيقة أنها مضطرة لزيادة الإنفاق، فالأولوية في هذه المرحلة للإنسان وحاجاته الأساسية، وحمايته من الجائحة، ولهذا فلا بد من بذل الجهود الكافية لترتيب وإدارة حركة العرض من السلع والخدمات والمرافق الضرورية، هذا في الوقت الذي تواجه فيه الموازنة العامة تراجعا كبيرا في الإيرادات المحلية والخارجية. وإذا استمرت الجائحة فإن الانتقال إلى الحكومة الرقمية وإدخال الانترنت في الحياة اليومية للناس سيكون لازما، وهو تحد كبير وجديد ومكلف في بدايته، وبالإجمال فإن هذه الجائحة هي اختبار حقيقي لمدى مرونة السلطات وقدرتها على إدارة الأزمات.
– تبدو الطبقة السياسية مستقيلة فيما يتعلق بالجائحة، كما أن دور رجال الأعمال بدا ناقصا، وهناك فقر كبير في القوة الاقتراحية لدى الجميع، وقد كشفت التطورات الأخيرة للمرض أن استعدادات الحكومة كانت أكثر ضجيجا من حقيقتها، وهو ما سينعكس على النشاط الاقتصادي في شكل زيادة التشاؤم في الحياة الاقتصادية، وعلى قرارات الكثير من الفاعلين الاقتصاديين مما سيعمق الأزمة إذا لم يطرأ جديد.