يعرف الفساد بمعناه الأوسع بأنه إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومية) لأهداف غير مشروعة. وتعد ظاهرة الفساد ظاهرة قديمة قدم المجتمعات الإنسانية، وهى ظاهرة لا تقتصر على شعب دون آخر أو دولة أو ثقافة دون أخرى، إلا أنها تتفاوت من حيث الحجم والدرجة بين مجتمع وآخر. وبالرغم من وجود الفساد فى معظم المجتمعات إلا أن البيئة التى ترافق بعض أنواع الأنظمة السياسية تشجع على بروز ظاهرة الفساد وتغلغلها أكثر من أى نظام آخر بينما تضعف هذه الظاهرة فى الأنظمة الديمقراطية التى تقوم على أسس من احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة وعلى الشفافية والمساءلة وسيادة القانون.
إن الفساد وفقاً لتعريف البنك الدولى فهو استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص (الشخصى) غير المشروع. وفى جميع الأحوال فإن الفساد هو انطباع لدى الجمهور بتكرار الفعل الفاسد والتعود عليه والتكيف أحيانا على قبوله. أما إذا تم اكتشافه والتعامل القانونى معه فقد تحول إلى جريمة، وهنا يمكن إحصاؤه والتعامل المباشر مع مرتكبيه.
وللأسف فإن كل أنواع الأنظمة السياسية معرضة للفساد التى تتنوع أشكاله إلا أن أكثرها شيوعاً هو المحسوبية والرشوة والابتزاز وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب.
وتختلف ماهية الفساد السياسى من بلد لآخر ومن سلطة قضائية لأخرى. فإجراءات التمويل السياسى التى تعد قانونية فى بلد معين قد تعتبر غير قانونية فى بلد آخر. وهو ما يجعل من الصعب حينها وضع حد فاصل بين ممارسة الصلاحيات والفساد. وقد تتحول الممارسات التى تعد فساداً سياسياً فى بعض البلدان إلى ممارسات مشروعة وقانونية فى بلاد أخرى.
أما الفساد المالى فيعرف بمجمل الانحرافات المالية ومخالفة القواعد والأحكام المالية التى تنظم سير العمل الإدارى والمالى فى الدولة ومؤسساتها.
كذلك فإن الفساد الإدارى يتعلق بمظاهر الفساد والانحرافات الإدارية والوظيفية أو التنظيمية وتلك المخالفات التى تصدر عن الموظف العام خلال تأديته لمهام وظيفته الرسمية.
وهناك فساد الشركات المملوكة للدولة أو ذات الملكية العامة والذى يتمثل فى انحرافات (مالية أو إدارية) ترتكب فى حق أصحاب الأسهم.
ولا يمكن للفساد أن ينشأ بدون ظروف ملائمة مثل:
■ أن تكون المؤسسات الحكومية متناحرة ومنفصلة عن بعضها.
■ أو أن تتركز السلطة بيد صناع قرار بلا مسؤولية أو محاسبية أمام الشعب فى ظل غياب الديمقراطية أو عجزها.
ولا يختلف الباحثون فى أن انتشار الفقر والجهل ونقص المعرفة بالحقوق الفردية وسيادة القيم التقليدية والروابط القائمة على النسب والقرابة سبب واضح للفساد.
كذلك فإن عدم الالتزام بمبدأ الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية فى النظام السياسى وطغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية يؤدى إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة ويتيح الفرصة للممارسات غير النزيهة.
ويضاف إلى ذلك تحجيم مؤسسات المجتمع المدنى وضعف الإعلام والرقابة وقلة فرص العمل وزيادة مستويات البطالة والفقر. ويزيد من إمكانية حدوث الفساد والتركيبات الطائفية والقبلية والمحسوبيات والقلق الناجم عن عدم الاستقرار والعوز والفقر وتدنى مستويات التعليم.
كذلك فإن هناك أسبابا إدارية وتنظيمية تخلق مناخا مناسبا لانتشار الفساد وتشمل الإجراءات المعقدة (البيروقراطية) وغموض التشريعات وتعددها.
وأخيرا فإن غياب الديمقراطية مثل عدم وجود برلمان قوى يستطيع مساءلة الحاكم ورئيس الحكومة والوزراء وأى من إداريى الدولة وعدم احترام القانون بصفة عامة أو استخدامه من السلطة بشكل انتقائى على من يختلف مع النظام القائم تعد أسبابا لا يستهان بها.
ويجدر بالمجتمعات الراغبة فى التنمية أن تفكر فى آليات مكافحة الفساد بإيقاف أسبابه وليس فقط باكتشافه وتحويله إلى جريمة.
ويرتبط بمفهوم الشفافية مفهوم آخر هو المساءلة، حيث إن وجود هذا المفهوم يعد ضابطا وحاكما للممارسات المتعلقة بالشفافية، فى ظل أنظمة الحكم والإدارة التى تأخذ فى اعتبارها مبادئ وأسس حقوق الإنسان.
ويمكننى أن أحدد علاقة الفساد بحقوق الإنسان فى التالى:
■ إن الفساد يؤدى إلى انتهاك إلزامية الحكومة تجاه المواطنين، حيث إن فساد إدارة الموارد العامة يقوض قدرة الحكومة على تقديم حزمة الخدمات التى هى حقوق مفروضة للمواطنين، بما فى ذلك الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية الضرورية لتحقيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
■ إن انتشار الفساد يعمق التمييز فى الحصول على الخدمات العامة لصالح القادرين على تلبية طلبات الفاسدين من الرشوة وخلافه.
■ إن الفساد يؤثر على التمتع بالحقوق المدنية والسياسية فهو يضعف المؤسسات الديمقراطية سواء الديمقراطيات الحديثة أو الراسخة. اذا كان الفساد هو السائد فى الوظائف العامة فإن القرارات لا تأخذ فى الاعتبار مصالح المجتمع، إن مبادئ ومؤسسات حقوق الإنسان مكون ضرورى لنجاح واستمرارية استراتيجيات مكافحة الفساد، حيث إن:
أولا: نجاح جهود مكافحة الفساد مرهون بالنظر إليه كونه مشكلة نظامية وليست مشكلة أفراد. كذلك شمولية الاستجابة ضد الفساد بمؤسسات فعالة وقوانين ملائمة وإصلاحات رشيدة فى الإدارة الحكومية وإشراك أصحاب المصلحة من داخل الحكومة وخارجها. وعليه فإن اعتماد أطر قانونية لمكافحة الفساد لن تكون ذات جدوى بدون مشاركة قوية للمجتمع المدنى ونشر لثقافة النزاهة فى مؤسسات الدولة. إننى أؤكد أن نشاط المجتمع المدنى ضد الفساد يحتاج للمساعدة حتى يتمكن من تحقيق أهدافه فى إطار قانونى يتمتع بالقوة ونظام سياسى منفتح.
ثانيا: مكافحة الفساد- وعلى غرار حقوق الإنسان- عملية طويلة الأمد تطلب تغيرات عميقة فى المجتمع تشمل مؤسسات البلاد وقوانينها وثقافتها، وعليه فإن فاعلية استراتيجية مكافحة الفساد مرتبطة بالاستفادة من المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وعناصره مثل استقلال القضاء وحرية الصحافة وحرية النشر، والشفافية فى النظام السياسى، والمساءلة وكلها مبادئ ضرورية لوضع استراتيجية ناجحة لمكافحة الفساد.
■ تحديد دور وخصائص المؤسسات الحكومية والأهليه التى يمكن أن تقوم بدور فعال فى مكافحة الفساد لمساندة دور السلطة القضائية والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان بالتعاون مع المنظمات الدولية لمكافحة الفساد.
■ تحقيق الشفافية والمساءلة كمبادئ أساسية فى حقوق الإنسان المبنية على منهج التنمية، وهى مكملة للاستراتيجيات الناجحة ضد الفساد.
إن هناك بعض التدابير التى من شأنها تعزيز الشفافية والمساءلة واستدامة مكافحة الفساد مرتبطة ارتباطا وثيقا باعتماد قوانين تضمن حصول الشعب على المعلومات الصحيحة عن العمليات الحكومية والقرارات والسياسات والإصلاحات المؤسسية.
■ إن مشاركة المجتمع المدنى والإعلام فى النظرة نحو قيمة المساءلة والشفافية كأمر حيوى ومهم جدا فى مكافحة الفساد، كدرس مستفاد من خلاصة تجربة حركات حقوق الإنسان فى المجتمعات المدنية فى رفع الوعى بمضار الفساد، وبناء التحالفات بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص لدعم هذه الجهود.
إن هيئات مكافحة الفساد وتطبيق القوانين غالبا ما تتجاهل أو تقلل من احتمالية حدوث تضارب بين سياسات مكافحة الفساد وتقنياته من ناحية، ومبادئ حقوق الإنسان من ناحية أخرى، وعليه فمن المهم تحديد أنواع سياسات مكافحة الفساد توافقيا مع مبادئ حقوق الإنسان. بما يضمن عدم التأثير السلبى على حقوق كافة المشتركين بمن فيهم الجناة والشهود ونشطاء مكافحة الفساد. ولعلى أنبه هنا بأهميه احترام حقوق الخصوصية والمحاكمة العادلة التى تعتبر أمثلة لانتهاك حقوق الإنسان فى حملات مكافحة الفساد، كذلك استخدام البطش كتقنية لمكافحة الفساد، قد ينال الشرفاء قبل الفاسدين.
وعليه مثلا فإن من الواجب اعتبار مسألة عبء الإثبات فى قضايا الفساد، الذى هو مجال لإقامة توازن بين اعتبارات ضرورات عمليات التحقيق والاستجوابات فى قضايا الفساد وما يوازيها من حقوق الإنسان وخطورة تسييس حملات مكافحة الفساد، واستخدامها بدون شفافية وتوثيق، كأداة حكومية لقمع المعارضة السياسية أو تصفية الخصومات. وفى هذا السياق تتضح أهمية وجود سبل فعالة لإنصاف ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الناجمة عن الفساد أو التدابير المتخذة لمكافحته.
إننى أعلم أن هناك توجهات نحو مراجعة نظم إدارة الموارد البشرية فى الإدارة الحكومية والأخذ بنظام اللامركزية وتحديث نظم الإدارة المالية والمراجعة وتقييم الأداء العام. إلا أن هذه الجهود تحتاج إلى المزيد والفاعلية. ولعلنا ندرك من هذه المقالة أن منع الممارسات الفاسدة لا يتأتى بالكشف عنها فقط، بل بمنع حدوثها وذلك بالعمل على تفادى أسباب وجودها. فلا نفرح بعدد القضايا التى يتم الكشف عنها، وهو مجهود محمود، ولكن العمل الجاد على مستويات مختلفة للوقاية من أسبابها.
وأخيرا أختم توصياتى فى البيئة الموريتانية بالتالى:
1- يجب أن تكون إجراءات مكافحة الفساد فى كافة القطاعات، برؤية متكاملة.
2- يجب أن تقوم الحكومة الموريتانية بإصدار معلومات يتم تحديثها بصفة دورية ونشرها على شبكة الإنترنت، وتشتمل على الميزانيات وتقييم الأداء على المستويين المحلى والوطنى فى جميع المجالات.
3- يجب أن تقوم الحكومة الموريتانية بتطبيق أنظمة قومية فعالة للإبلاغ عن الممارسات الفاسدة .
4- يجب أن تكون جهات التمويل والدعم الفنى المانحة على قدر كبير من الوضوح والصراحة.
5- يجب أن توفر الحكومة الموريتانية الحماية للمبلغين عن ممارسات الفساد من الأفراد الذين يعملون فى المؤسسات.
6- يجب أن يتقاضى العاملون أجرا لائقا يتناسب مع تعليمهم ومهارتهم والتدريب الذى تلقوه.
7- يجب توضيح القواعد المنظمة لتعارض المصالح وفقا لمبدأ دعم الشفافية.
8- يجب تطبيق ميثاق النزاهة فى التعاملات التجارية والذى يتضمن اتفاقا يلتزم به كل من مقدمى العطاء والهيئات المتعاقدة ويحظر فيه عرض أو قبول الرشاوى فى التعاقدات العامة.
9- يجب توفير الخبرات الضرورية والموارد والاستقلالية للهيئات المعنية بمكافحة الفساد.
10- يجب على الدولة تفعيل الحكومة الإلكترونية وتحقيق الخدمات للمواطنين بدون الحاجة للاتصال المباشر مع موظفى الدولة. إننا يجب أن ندرك ضرورة اتباع الأساليب العصرية التكنولوجية الحديثة فى نظم إدارة الدولة وحوكمة المؤسسات الحكومية بحيث تتفاعل السلطات السياسية والاقتصادية والإدارية وتعمل فى منظومة متكاملة يعتمد كل عنصر منها على فاعلية أداء العناصر الأخرى- على جميع المستويات- فى غاية الأهمية لمنع الممارسات الفاسدة وحماية حقوق الإنسان فى نفس الوقت.
حفظ الله موريتانيا وجعلها آمنة مطمئنة.