خريف عام 2015، انتشرت لافتات دعائية في شوارع العاصمة الدانماركية كوبنهاغن، تحتوي على صور وشعارات تشجع المواطنين، وخاصة الشباب منهم، على إنجاب الأطفال والتفكير في تكوين عائلات قبل فوات الأوان.
تقول الكاتبة آنا لوي سوسمان -في مقال بصحيفة نيويورك تايمز الأميركية- إن هذه الحملة الدعائية، تم تمويلها من قبل مجلس المدينة، وذلك بهدف تذكير الشباب بأن ساعاتهم البيولوجية تمر، وأن موقفهم حيال فكرة إنجاب الأطفال بات يمثل مشكلة حقيقية.
وتشير الكاتبة إلى أن هذه الحملة لقيت انتقادا كبيرا من قبل بعض الفئات، التي اعتبرت أنها تصور المرأة على أنها حيوان ولود دوره الوحيد هو التكاثر. كما أن آخرين اعتبروا أن التوقيت غير مناسب، باعتبار أن المواطنين كانوا يشاهدون على شاشة التلفزيون الآلاف من اللاجئين السوريين وهم يخاطرون بحياتهم من أجل الوصول إلى أوروبا، ولذلك فإن التشجيع على الإنجاب بدا كأنه عداء للمهاجرين.
القارة العجوز لا تنجب
وتنقل الكاتبة عن الدكتور سورين زيابي، الطبيب والمدير السابق للجمعية الدانماركية للخصوبة أن "تلك الخطوة كانت ضرورية، لأن معدلات الخصوبة في الدانمارك نزلت إلى ما دون مستوى الاستبدال، وهو معدل الخصوبة الذي يجب تحقيقه من أجل إبقاء عدد السكان ثابتا".
ويوضح زيابي أن سبب هذا التراجع ليس فقط رغبة الكثيرين في خوض الحياة دون تحمل مسؤولية الأطفال، بل إن هنالك الكثيرين من الأزواج والنساء العازبات، من الذين يرغبون في تكوين عائلة، ولكنهم يكتشفون أنهم انتظروا وقتا طويلا حتى فاتهم الأوان.
وترى الكاتبة أن هذه الحملة فشلت في تحقيق أهدافها، حيث إن أغلب الشباب المستجوب بعد تلك الفترة، أكد أنه لا يعتزم تغيير أولوياته ومخططاته المستقبلية، وذلك على الرغم من أن دولة الدانمارك تعد واحدة من الأغنى في أوروبا.
إضافة إلى ذلك فإن الدولة توفر للآباء والأمهات تشجيعات كبيرة، منها إجازة مدفوعة الأجر لمدة 12 شهرا، والمساهمة في دفع تكاليف الرعاية النهارية للرضيع، كما أن النساء تحت سن الأربعين يحصلن على دعم مالي لإجراء التلقيح الصناعي، ولكن رغم كل هذه الإجراءات فإن معدلات الولادة الناجحة لدى المرأة الدانماركية لا تتجاوز 1.7 ولادة ناجحة طوال حياتها.
العمل والأمومة لا يجتمعان
وتذكر الكاتبة أن هذه المشكلة لا تتعلق فقط بالدانماركيين، حيث إن معدلات الخصوبة تراجعت في أغلب أنحاء العالم، أي في الدول متوسطة الدخل، وبعض الدول الفقيرة، ولكن المثير للانتباه هو أنها تراجعت بحدة في الدول الغنية.
وتشير الكاتبة إلى أن تراجع الولادات يترافق دائما مع التنمية الاقتصادية، وهو في جانبه الإيجابي يعكس تحسن التعليم وتوفر فرص العمل للنساء، وفي جانبه السلبي يعكس فشل الدولة وأرباب العمل، في تمكين الموظفين من فرصة الجمع بين المسيرة المهنية وتربية الأطفال.
كما تلفت الكاتبة إلى وجود فجوة بين المنشود والموجود، إذ إن الإحصائيات التي أجريت في 28 دولة أعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أظهرت أن معدل ما ترغب النساء في إنجابه من أطفال هو 2.3، فيما يرغب الرجال في إنجاب 2.2، ولكن في الواقع فإن الأرقام لا تزال بعيدة عن هذا الهدف، وهو ما يعني أن هنالك عوامل تمنع الأبوين من إنجاب الأطفال، حتى لو كانوا راغبين في ذلك.
وتفسر الكاتبة هذا الأمر بوجود العديد من الصعوبات، مثل غياب سياسات تشجع على تكوين العائلات في دول مثل الولايات المتحدة، ومعاناة النساء من التمييز الجندري في كوريا الجنوبية وشرق آسيا، وارتفاع معدلات البطالة لدى الشباب في دول جنوب أوروبا.
وتنبه الكاتبة إلى أن النظام العالمي الرأسمالي أدى إلى حدوث تغييرات في نمط حياتنا اليومي، باتت تمثل السبب الرئيسي وراء تراجع الرغبة أو القدرة على إنجاب الأطفال، إذ إن المنافسة الاقتصادية الحادة لا تشجع على تكوين عائلة، لأن الموظفين باتوا يشتغلون وقتا أطول وبرواتب أقل، ولم يعد لديهم الوقت لإنشاء علاقات عاطفية أو الوقوع في الحب.
كما أن الآباء والأمهات باتوا يتخوفون من البيئة التنافسية التي قد ينشأ فيها الأطفال، وهو ما يفرض عليهم حتمية الحصول على تعليم باهظ الثمن من أجل مستقبل أفضل.
البيئة ضد الأطفال
وتضيف الكاتبة أن العوامل البيئية والصحية كان لها أيضا دور في إضعاف الخصوبة لدى الناس، وذلك بسبب تسرب الكثير من المواد الكيميائية والملوثات إلى أجسامنا، وهو ما يسبب الاضطراب في أنظمة عمل الجسم، ويضعف الوظائف التناسلية.
وتذكر الكاتبة أنه حتى في الدول الأكثر رفاهية وأفضل رعاية صحية مثل الدانمارك، حيث لا يواجه السكان ضغوطا متعلقة بمستوى المعيشة وتكاليف رعاية الأطفال وفرص الحصول على عمل، فإن الناس باتوا مصابين بأمراض روحانية أخرى مرتبطة بالرأسمالية.
وتذكر الكاتبة أن كثيرين باتوا يقررون عدم إنجاب الأطفال، وذلك بناء على قناعة شخصية، ولأن المجتمع بات يتقبل هذا القرار ويعتبره خيارا شخصيا. ولكن الملاحظ في العديد من الدول المتقدمة، مثل الدانمارك وفنلندا، هو تزايد الطلب على عمليات الإنجاب الصناعي، التي يقوم بها الأشخاص الذين تجاوزوا مرحلة الخصوبة.
حيث يستعين هؤلاء بإحدى التقنيات الجراحية أو الحلول البديلة المتوفرة من أجل الحصول على أبناء، وباتت نسبة الأطفال الذين يأتون بهذه الطريقة تصل إلى 10% في الدانمارك، وهو ما يؤكد أن كثيرين من الذين يقررون عدم الإنجاب، يغيرون رأيهم في مراحل لاحقة ويشعرون بالندم.
وتحذر الكاتبة من أن أزمة الخصوبة التي تواجهها اليوم أوروبا وأميركا والصين وأغلب دول العالم، باتت أمرا واقعا، تؤكده الإحصاءات والدراسات العلمية، رغم أن كثيرين لا يتنبهون لها أو يعتبرونها أمرا طبيعيا.