على الرغم من عدم وجود دراسات دقيقة تبين حجم العنف وخاصة داخل البيوت، الذي يتعرض له الأطفال، إلا أن ممارسته بدأت تظهر وبقوة من خلال الهواتف المحمولة التي أصبحت توفر في يومنا هذا فرصة تصوير مشاهد يندى لها الجبين، مثال الفيديو المتداول منذ أسابيع قليلة فقط والذي تضمن مشاهد لا يمكن ان تمحى من الذاكرة للأب يوسف القططي الذي عنف ابنته بوحشية وحاول تبرير فعلته بأنه كان يعلمها المشي وقال "الحمد لله أصبحت تمشي الآن” وبأنه كان يمر بضغط نفسي صعب لأن زوجته تركته وأولاده بدون علمه إلى أين ذهبت. فيديو تعنيف الرضيعة انتشر كالنار في الهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي وكان موجعا ما أدى إلى مطالبة نشطاء السوشيال ميديا تدخل السلطات ومحاكمته ومعاقبته وحماية الطفلة من هذا الذئب البشري.
ويرى أخصائيون أن العنف يكثر بين الفئات التي تعرضت للقهر والاضطهاد، وأن وسائل التواصل الاجتماعي زادت وأججت من السلوك العنيف. كما وأن للعنف أسبابا موروثة مثل الاحتلال، إلغاء كيان الآخر، الاستغلال المادي واستغلال الزوج لزوجته، استغلال الدين لإعطاء نوع من المنطق للسلوك العنيف رغم أن الديانات كلها تنبذ العنف، الإجبار على الزواج، المجتمع الذكوري المتسلط، والانتقام لشرف العائلة المتمثل بجرائم الشرف، وغيرها الكثير من الموروثات التي تستخدمها المجتمعات لحد اليوم كذريعة للعنف والإجرام والتحرش.
الفيديوهات تنقل مباشرة وبسرعة البرق مشاهد تصل إلى بيوتنا بدون استئذان، آباء يجرمون بحق أطفالهم الرضع بلا رحمة، من أب يضرب بوحشية طفلته التي لا تتجاوز السنتين بسبب خلاف مع زوجته، وأخوة يقتلون أختهم لمجرد الشك بأنها مارست علاقة خارج إطار العلاقات الشرعية ومطلقة ترمي أولادها إلى الشوارع ليبيعوا المناديل حتى يؤمنوا قوت يومهم فتعرضهم بذلك لشتى أشكال الاستغلال والعنف من قبل ضعفاء النفوس والمجرمين ووالد يغتصب ابنته وأم تبيع ابنتها، وكلها قصص مؤلمة تستشري في مجتمعاتنا تشعر المرء بالاشمئزاز من ما يجري من بشاعة كنا نقرأ عنها في زوايا الحوادث في الصحف الورقية لكنها اليوم لأننا أصبحنا نتابعها عبر الصوت والصورة.
والأغرب من ذلك أن هذه الجرائم تجد متابعين تصل أعدادهم إلى الملايين يأخذهم الفضول للبحث عن مشاهد مرعبة لما فيها من إثارة وغرابة.
سألنا المستشارة النفسية سناء عيسى التي تعتمد أسلوب التربية بالحب، كيف يتصرف الأهل عند تعرض طفلهم للعنف والتحرش، وإلى أي مدى التربية داخل الأسرة تنتج العنف؟
فقالت: "الناس تلوم الفضائيات والسوشيال ميديا على زيادة التحرش والعنف وتعتبرها طرفا في ذلك. هذا الكلام مغلوط فالتحرش موجود منذ القدم، لكن التكنولوجيا الحديثة أصبحت تتناوله أكثر كأن تصل إلى المتحرش بهم وحتى المعتدين أيضا، ويصور الضحايا فيديوهات ينشرونها عبر مواقع التواصل لإيصال صرخاتهم إلى العالم.
في الماضي كان الأطفال يسكتون لدى تعرضهم للتحرش والمجرمون لا يعاقبون وهم في معظمهم أصلا كانوا ضحايا للتحرش والضرب”.
مضيفة: "أنا متفائلة لأن الناس ازدادوا وعيا بعد أن كان الحديث في التحرش عيبا، حتى أن بعض العوائل كانت تقتل بناتها خوفا من الفضيحة”.
مشيرة إلى أننا ننبه أولادنا من الغرباء بينما في الحقيقة من الصعب أن يختلي بهم الغرباء كما يفعل المقربون، فأغلب حوادث التحرش تحدث من قبل شخص لا يمكن الشك فيه.
علامات التعنيف
وعن العلامات التي تدل على تعرض الطفل لتحرش جنسي أو اغتصاب، قالت عيسى: "إذا اجتمعت عدة أمور وتغير سلوك الطفل بشكل واضح كأن لا ينام جيدا ويحلم بكوابيس ويخاف النوم بمفرده ومنعزلا، ويبدو فاقدا للشهية ويضعف تركيزه ويقل نشاطه، وتصبح لديه حركات جنسية تظهر عندما يحضن والدته مثلا أو يقبلها أو بطريقة لمسه للألعاب.
ويجب أن نعلم أن الطفل من الصعب ان يصرح بكونه تعرض لتحرش مهما كان عمره، لكن سيظهر في سلوكه بشكل أكيد إذ ان التحرش الجنسي لا يظهر آثارا على الجسد مثل الضرب المبرح والعنيف لكنه يترك آثارا نفسية وسلوكية مدمرة إذا لم يتم علاجه. وقد تكون هذه المؤشرات لأسباب ليست لها علاقة بالتحرش ولو تجمع أكثر من مؤشر مع متابعة العائلة سيعرف سبب تغيير السلوك.
انعدام التواصل
وتوضح عيسى مخاوف الطفل من التعبير لأهله عن ما جرى له من تعنيف وتحرش بالقول: نسبة الأطفال الذين يتم التحرش بهم كبيرة بينما نسبة من يبلغ منهم قليلة جدا، خاصة أبناء الأهل المنشغلون والعصبيون الذين لم يبنوا علاقة قوية أصلا مع الطفل فكيف يتوقعون أن يأتي ويخبرهم بما حدث له؟
وحتى يستطيع الطفل أن يصارح أهله يجب ان يشعر بالأمان والثقة وهنا أنصح باستعمال الأهل لغة الحب التي تشعره بالأمان وبالتالي تمكنه من ان يفصح عما في داخله لأهله.
أرى أن يجتمع الأهل مع أبنائهم يوميا للحديث حول مجريات اليوم الجيدة والسيئة، هذه الطريقة لو مورست ستبني جسورا قوية بين الأبناء والأهل.
التعامل مع صدمة التحرش
وتنصح عيسى بأن يتحلى الأهل بضبط النفس عند معرفة تعرض أطفالهم للتحرش وأن يبينوا لهم السلوك الصحيح حتى لا يخطئوا، فالمتحرش به ضحية لا يريد المزيد من العقاب بل يحتاج إلى التفهم والمساعدة للخروج من التبعات النفسية الصعبة التي يمر بها. والطفل الذي تعرض للتحرش أكثر من مرة من أحد أقربائه يشعر بحيرة التعامل معهم، وتنتابه مشاعر الخزي والعار وتؤثر على علاقته بالآخرين حتى عندما يكبر.
مشاكل نفسية
وتابعت: جاءت إلى عيادتي نساء تعرضن في صغرهن للتحرش وحتى بعد الزواج والانجاب ما زلن يعانين من تأثيراته بسبب عدم معالجة الأمر منذ الصغر، فالمشكلة تتضاعف لدى من يبقى صامتا. وقد تكون المسألة أخف حدة مع من يتحدث عن تجربته ويبحث عن علاج ويجد حاضنة تحميه.
وتنصح عيسى بالاستعانة بقريب لو وجدنا الأمر صعبا على تقبل ما حدث للطفل بسبب صدمة الأهل، ويجب أن يفهم الطفل بأن ما حدث له ليس بسببه ومهما حدث سيبقى أهله يحبونه، وأن لا يرى ردة فعل والدته غاضبة أو مصدومة، بل يفهم أن غضبها ليس بسببه بل لأجله وتعاطفا معه.
وأحيانا يكون من الصعب التعامل مع الحالة من دون وجود أخصائي نفسي.
وأشارت إلى ضرورة أن يصدق الأهل ما يقوله الطفل مع ارشاده إلى الحيطة والحذر وأن لا يسمح لأحد بأن يلمس جسده، مع مراعاة تنمية ثقته بالنفس.
إضافة إلى التوعية بالجنس عبر التحدث مع الأطفال عنه بطريقة علمية تناسب أعمارهم وهذه مسألة ضرورية فالأهل يتجنبون هذا الموضوع خوفا من ان إثارة الطفل، وعلى المؤسسات التعليمية دور مهم في التوعية الجنسية.
ومن الضروري متابعة ما يشاهد الأولاد عبر شاشات التلفزيون والكمبيوتر والهاتف المحمول لأن ما تحويه من عنف ولقطات إباحية وتحرش يشجع على ممارسة السلوكيات غير السوية في الواقع.
وأكدت على ضرورة توفير الدعم النفسي للأهل أيضا لأنهم سيشعرون بالذنب وبجلد الذات لما حدث لابنهم أو ابنتهم لكن يجب عدم الاستسلام لهذه المشاعر السلبية لأننا في النهاية لن نستطيع حماية أطفالنا مئة في المئة.