حين تشيخ المدن تحتفظ أزقتها بأحلى ذكريات الطفولة والشباب، وحين يرحل من سكنوا الديارَ تنحني الجدران على الأطياف، وتعَضُّ الدُّور بالنواجذ على الآثار.
هكذا تحاول وادان الواقعة في قلب الصحراء شمالي موريتانيا أن تحتفظ بملامحَ من حكاية ازدهار علمي وعُمراني عاشته منذ تسعة قرون، تقدم لزائرها بين دفتي كتاب صورةً عن ماض وألق كان لهما صورة مغايرة لما تعيشه المدينة هذه الأيام من عزلة وندرة اقتصادية وقلة في العدد والسكان. من أي جهة دلفت إلى المدينة القديمة ستأخذك الممرات والأزقة الضيقة حتما إلى أطول شارع يشطر المدينة شطرين من الجنوب إلى الشمال، ليصل ما بين المسجد العتيق عند سفح المرتفع والجامع الجديد في أعلى نقطة من المدينة.. إنه "شارع الأربعين عالما" تقول إحدى اللافتات.
وتحمل لافتات أخرى أسماء من عاشوا في هذا الشارع من الآباء المؤسسين للمدينة، ومن علماء تزخر المكتبات الوادانية بما خلَّفوا من مخطوطات ومصنفات في شتى العلوم النقلية والعقلية التي أنتجتها الحضارة العربية والإسلامية في أوج ازدهارها خلال العصر الوسيط.
رحلة المنى
يلتف "شارع الأربعين عالما" إلى اليسار مواصلا انحداره نحو المسجد العتيق، فتشد انتباهك إحدى أطول اللافتات وقد حملت اسم "أحمد طالب ولد اطوير الجنة" صاحب الرحلة الشهيرة "رحلة المنى والمنة" التي رسمت صورة عن مسار رحلة الحجيج الشناقطة، وعلاقاتهم مع الدول والأمصار الواقعة على طول تلك الرحلة.. مقدَّرات تاريخية وتراثية أهَّلت وادان لأن تُصنف تراثا عالميا من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو). وأنت تخطو في شارع الأربعين عالما، لن تعدم أحد أبناء المدينة يتعهد بالزيارة إحدى الدور العتيقة المهجورة لأسلافه.. وسيجد متعة في إرشادك إلى أبرز المعالم التاريخية، ويشرع في سرد حكايات وادانية تبدأ بحكاية الأربعين عالما وما ترمز إليه من نهضة علمية، ولا تنتهي بسور المدينة الذي لم يبق منه إلا القليل، وبأبوابها الثلاثة.
سيقف بك فوق إحدى البنايات المتهالكة المطلة على خارج المدينة التي كانت منصة استطلاع لتراقب من الأعلى الحركة خارج المدينة، كما كان يفعل سكان وادان. ولا تكتمل الجولة داخل البيوت المبنية من الصخور دون زيارة "البئر المحصنة" التي حفرها الوادانيون داخل إحدى الدور من أجل تأمين المياه خلال فترات الحصار.
تتعدد هذه الحكايات وتختلف من شخص لآخر، كحال كل المرويات التاريخية الشفهية، لكن الآراء تتَّحد حين تصل إلى واقع المدينة وما تعيشه من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة. فمنذ انزياح المسالك التجارية عن الصحراء وانحسار تجارة الملح المستخرج من السباخ الواقعة قرب وادان بعد ذلك، بدأت المدينة تفقد رويدا رويدا أهميتها الإستراتيجية. تدخل وادان القرن العشرين وقد أثقل كاهلها كرُّ السنين وتعاقب القرون العجاف. يقول رئيس رابطة آباء التلاميذ في المنطقة محمد عبد الله ولد آياه إن القلة القليلة التي بقيت في المدينة تعاني من غياب أي فرص عمل أو أنشطة مدرة للدخل.
النشاط الاقتصادي الوحيد الذي ما يزال يُبقي بعض السكان في المدينة والقرى المجاورة لها هو زراعة النخيل والخضراوات، ولا يسلم هو الآخر من صعوبات وتحديات تتمثل في شح المياه وعدم قدرة بعض المزارعين على اقتناء المضخات وتزويدها بالوقود.
محاولات للنهوض
ونظرا لما آلت إليه أوضاع هذه المدينة وأخواتها تيشيت وولاتة وشنقيط، انتهجت الحكومة الموريتانية سياسة تهدف إلى إعادة الحياة فيها، فشرعت منذ العام 2012 في إقامة مهرجان دوري بين المدن الأربع يستمر لمدة أسبوع، ويتزامن مع عيد المولد النبوي. النسخة السادسة من المهرجان احتفت هذا العام بمدينة وادان وبمكتباتها التي تزخر بالمخطوطات الثمينة. كما شملت العروضُ الفلكلورية مشاهد من حياة المدينة القديمة مثل القوافل التجارية، فضلا عن محاضرات علمية ومسابقات في علوم القرآن والحديث، وتقديم نماذج من وسائل الترفيه التقليدية. وبدَّدت ألحان شدت بها فرق موسيقية قدمت من داخل موريتانيا ومن الجزائر والمغرب ومالي صمتا طالما لفَّ المدينة.
لفتة يقول مدير المؤسسة الوطنية لحماية المدن القديمة سيدي عبد الله ولد البخاري إنها جاءت لترُد الجميل إلى هذه المدن وإسهاماتها التاريخية الجُلَّى.
غير أن ست سنوات من عمر هذا المهرجان لم تشفع لوادان وأخواتها في الحصول على طرق معبدة تربطها بعواصم المحافظات أو المراكز الحضرية المجاورة.. عزلة تخنق المدينة وتضع موروثها الثقافي ومواقعها الأثرية في مهب الضياع.
وبقدر ما تنتعش آمال السكان مع بداية كل دورة للمهرجان وما يخلق من حَراك اقتصادي وسياحي، تنمو المخاوف مع نهايته من عودة الحياة إلى رتابتها المعهودة في هذا الركن القصي من الصحراء.
عن: الجزيرة. نت