خلال العقود الماضية ظلت المملكة المغربية تنظر إلى موريتانيا كخرقة بالية تنظف بها (من الجهة الاجتماعية) جروح ملف حقوق الإنسان، حينما يتعلق الموضوع بالملف الصحراوي.
لم تكن موريتانيا بالنسبة للمغرب كيانا، يمكن أن يشكل في الأفقين القريب، ولا حتى البعيد حجر عثرة في طريق أحلام السيطرة والتملك، خصوصا أن موريتانيا في تلك الفترة (1978- 2009) تسير من طرف حفنة من المفسدين، همهم الأول هو نفخ الجيوب، وبالتالي من السهل احتواء توجهات هذا النوع من السلالات البشرية.
العام 2009 شكل نقطة تحول سريعة في هذا المسار على المستوى المحلي في موريتانيا، فبعض المشاكل الداخلية التي كانت تشكل أبرز ملامح الفشل الموريتاني على جميع المستويات تم البدء في إيجاد حلول لبعضها، والبعض الآخر سلك طريقا يؤدي في النهاية إلى الحلول الشافية.
هنا كان من المفترض بالمغرب أن يقف وقفة قصيرة مع الذات؛ لبحث كيفية التعاطي مع هذا الخطر الذي يتشكل بسرعة وينذر بكارثة حقيقية متعددة الأبعاد، لكن المغرب اختارت التفرج في انتظار أن تعود حليمة لعادتها القديمة.
توالت الضربات الموجعة إلى أن وصلت إلى حد يصعب الصبر عليه.
تحركت المغرب أخيرا لكنها كانت مقطوعة اليد و العنق والذيل، تحاصرها عزلة مزدحمة بالخيارات العصيبة، وتتوكؤ في تحركاتها على مجموعة من الخيارات، جميعها لا تخرج من دائرة الاختيار بين الحصبة والطاعون.
دعونا أولا نعرج على الكيفية التي تمت بها مواجهة هذا الأخطبوط حسب تسلسل طويل، جعله في النهاية يركن إلى ما هو عليه الآن من ضيق في الرؤية وتخبط في المواقف.
أولا: البعد المحلي الداخلي.
كانت المشاريع التي أطلقت في موريتانيا مؤخرا عبارة عن خلاص البلاد مع سيل طويل من التبعية الخارجية، والتي كانت تعول عليها المغرب من منطلق أن من لا يملك قوت يومه لا يملك قرار نفسه، وبالتالي كان يعول كثيرا على انشغال البلاد في أتون صراعات داخلية، تعمق منها المشاكل الاقتصادية والخدمية والأمنية، ومن هنا جاءت الضربة الأولى، لكنها لم تفهم في بعدها الاستراتيجي، مما جعلها تمر دون أن تلفت أي انتباه.
ثانيا: البعد الأمني.
شكلت النجاحات الأمنية الكبيرة للقوات المسلحة وقوات الأمن الموريتانية في صون الحوزة الترابية للبلاد، والتوسع نحو الخارج للعب أداور إقليمية ودولية ضربة قاضية للمغرب التي فشلت في حل معضلة الإرهاب على مستوى الداخل المغربي ولم تجد في النهاية ما تسوقه للخارج غير الفشل، وأخيرا جاء التوسع الموريتاني على مستوى الموضوع الأمني يضيف رؤية خارقة من حيث النتائج لمعالجة الإشكاليات الأمنية على مستوى الساحل والصحراء من خلال المقاربة الأمنية الموريتانية، ثم بعد ذلك تتالت الريادة الموريتانية في هذا المجال متوجة بعدة خطوات قطعت الطريق على أي دور في المنطقة دون العودة إلى موريتانيا، ومجموعة الخمس في الساحل أبسط دليل على ذلك.
ثالثا: البعد السياسي.
رئاسة الاتحاد الإفريقي، استضافة القمة العربية وقيادة العمل العربي المشترك، رئاسة العمل العربي الإفريقي، الدور الكبير على المستوى السياسي العالمي، كانت كل هذه الأمور مجتمعة تشكل ضربة موجعة لطموحات المغرب لم تجد على مر التاريخ سندا لها أقوى من الفشل الاستراتيجي لبلدان المنطقة.
في ظل وضع كهذا حاولت المغرب العودة بأقدامها إلى جزء ولو يسير من البساط، فكانت البداية محاولة الضغط على موريتانيا من خلال الجوار القريب، أو لعب أدوار في المنطقة، لكن موريتانيا كانت سباقة للموضوع، فمثلا أي دور يمكن أن تلعبه مالي وإحدى الإشكاليات الكبيرة التي تعاني منها تمسك موريتانيا بأوراقها، سواء تعلق الأمر بالبعد الأمني حيث ملف التسوية في كيدال بقيادة الرئيس الموريتاني، أو الاجتماعي حيث تحتضن نواكشوط أبرز القيادات في أطراف النزاع، وفي شرق البلاد الآلاف من اللاجئين وجدوا في موريتانيا الحضن الدافئ.
أي دور يمكن أن تلعبه السنغال؛ وأبسط خطوات موريتانيا قطع الكهرباء عن منازلها، أو منع تجارها من الصيد في المياه الموريتانية، أو طرد عمالتها من البلاد، أو ضرب اقتصادها من خلال المعلمة الإستراتجية " ميناء أنجاكو"؟ بل أي دور لها في مواجهة موريتانيا؛ وهي التي يسيل الآن لعابها تنتظر حظا من الاكتشافات البترولية الموريتانية الهائلة على حدودها؟..
رابعا: البعد الاجتماعي والثقافي
في هذين البعدين يكمن داء آخر، وتمتلك موريتانيا من مصادر القوة ما يجعل تحركها في المستقبل يشكل ضربة في الصميم ستكون في حال حدوثها قاسمة الظهر التي تجعل المملكة تدرك موقعها الحقيقي في خارطة المشهد الاستراتجي خلف موريتانيا، وهو الخطر الكبير الذي يتم تجاهله من طرف حكام الرباط، رغم حضوره الدائم في المخيلة الجمعوية للمجتمع المغربي.
وبالنظر إلى مهرجان المدن القديمة في نسخته الأخيرة تكتمل الصورة، فموريتانيا بعد الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية، ها هي اليوم تحضر بقوة على خارطة المشهد الاجتماعي والثقافي؛ كصاحبة ريادة في هذا المجال في المنطقة، وهو ما يشكل نقطة قوة أخرى، تجعل من الصعب أن يجد أي طرف آخر فرصة للمناورة دون العودة إليها.
ومن خلال كل هذا يتبين أن المملكة المغربية فقدت كل أوراقها في المنطقة، لكن من الغريب أن يكون أقصى ما لديها للتعاطي مع الموضوع هو مهاجمة موريتانيا عن طريق مجموعة من الفشلة في المجال المخابراتي والأخلاقي.
لنا عودة إلى الموضوع من زاوية أخرى.
الحافظ عبد الله صحفي موريتاني