سيطر “تنظيم الدولة الإسلامية” على مدينة ماراوي جنوبي الفلبين لمدة خمسة أشهر عام 2017. وكان القس الكاثوليكي، الأب تشيتو، أحد الذين اعتقلهم مسلحوه، وقد أجبروه على صنع قنابل للتنظيم تحت تهديد التعذيب. هزت هذه التجربة تشيتو بعمق، لكنه رغم ذلك ما زال يأمل بأن يتمكن المسيحيون والمسلمون من العيش معاً بسلام.
في وقت العشاء، تجمع نحو 30 شخصاً حول مائدة طويلة في الطابق السفلي في مسجد باتو لتناول الطعام، جلس 15 مسلحا “جهادياً” على طرف من المائدة وجلس في الطرف الآخر القس الكاثوليكي الأب تشيتو، مع مجموعة من المسيحيين الآخرين.
وفجأة، اندلع صوت إطلاق نار فقفزوا من أماكنهم للرد، أمسك الأب تشيتو ببندقية كانت تحت قدميه ودفعها على المائدة إلى أحد المسلحين الذي التقطها وركض إلى مدخل المسجد، مستعدا للرد على مصدر النار.
وبعد بضع دقائق، ابتعد صوت إطلاق النار، فعادوا جميعا إلى أماكنهم حول الطاولة.
لقد أصبح هذا الفعل روتيناً مألوفاً، وظل الأب تشيتو رهينة لأكثر من شهرين، و لايستطيع تشيتو القول إنه أحب خاطفيه، لكنه يقول إنه طور ما يصفه بنوع من “التقارب الإنساني” معهم. كانوا مجموعة صغيرة، يتناولون الطعام معا ويعملون معاً، لذا كان يحزن عندما كان يسمع أن أحد “الجهاديين” خلال القتال ضد الجيش الفلبيني.
احتجز الأب تشيتو كرهينة في 23 مايو/أيار 2017، وهو اليوم الذي طوق فيه مسلحو التنظيم مدينة ماراوي.
وقبل ذلك كانت ماراوي مدينة جميلة ومكتظة بالسكان، فيها أبنية عالية ومساجد مزخرفة، وهي مدينة ذات أغلبية مسلمة في بلد غالبية سكانه من الكاثوليك.
تعرض الجامع الكبير في ماراوي للقصف في يونيو/حزيران 2017
أول ظهور للإسلام
وصل الإسلام إلى جنوب الفلبين لأول مرة في القرن الثالث عشر، عن طريق تجار من الشرق الأوسط والأرخبيل المالاوي والإندونيسي.
وأعقب ذلك ظهور مساجد في المنطقة وعُرف الذين تحولوا إلى الإسلام باسم شعب مورو.
وعندما استعمر الإسبان الفلبين في القرن السادس عشر، جلبوا معهم الكاثوليكية لكنهم فشلوا في غزو شعب المورو في جنوب البلاد.
ومنذ ذلك الحين، شعر الكثير من المسلمين في الجنوب بالتهميش، وباتت منطقتهم من أفقر مناطق البلاد، وتصاعدت فيها الدعوات للحكم الذاتي بعيدا عن مانيلا التي كانوا ينظرون إليها على نطاق واسع على أنها معقل الكاثوليكية.
وعندما أُرسل الأب تشيتو إلى ماراوي قبل 23 عاماً بهدف بناء حوار بين الأديان بين المسيحيين والمسلمين، رحب معظم الناس في المدينة به وبزملائه. لكنه بدأ يشعر في الأشهر الأخيرة التي سبقت حصار المدينة بعدم الارتياح بشكل متزايد.
وفي أوائل عام 2016، عاد شقيقان من قبيلة ماوت من الدراسة في الشرق الأوسط إلى مسقط رأسهما، بلدة بوتيغ جنوبي ماراوي. وبدآ بالدعوة الى شكل متشدد من الإسلام واستخدام السلاح، وشكلا جماعة وصل عدد أتباعها إلى قرابة 200 شخص، بدأت بمهاجمة القوات الحكومية في المنطقة.
وفي عام 2017، اقتربت الهجمات كثيرا من ماراوي. وانضم مقاتلون متشددون من إندونيسيا وماليزيا إلى صفوف هذه الجماعة المسلحة.
وفي أواخر مايو/أيار، لُوحظ وجود عناصر من جماعة أخرى متحالفة مع تنظيم الدولة الإسلامية في المدينة هي جماعة “أبو سياف”. وفي هذه اللحظة بات المشهد معدا لتطويق مدينة ماراوي والسيطرة عليها.
استيقظ الأب تشيتو من قيلولته في الظهيرة على أصوت إطلاق نار. وبدأ جهاز الكمبيوتر والهاتف المحمول بأصدار أصوات التنبيه إ إذ انهالت عليه رسائل من أصدقاء مسلمين وكاثوليك، تقول جميعها: “أخرج من ماراوي!”
لكن تشيتو لم يخرج، بل جلس يصلي إلى ربه قائلاً في نفسه: “أثق بأن كل شيء بيد الله، لذلك لن أخرج”.
وفي الساعة 5:30 مساءً، أطبق الصمت على المدينة، وأصبحت الشوارع خالية، وأغلقت النوافذ وأطفأت الأنوار، ورفع المتشددون علم الدولة الإسلامية الأسود فوق مبنى المستشفى، وتصاعدت سحب الدخان من مركز الشرطة الذي كان يحترق.
ثم وصل المسلحون “الجهاديون” إلى بوابة الكاتدرائية، فاقترب تشيتو من البوابة، وإذ برجلين يرفعان بنادقهما نحوه ووقف خلفهما أكثر من 100 مسلح آخر.
واحتجز القس إلى جانب خمسة من زملائه، وأجبروا على قضاء الليل في حوض شاحنة، بينما ظل المسلحون يعظون ويلقون خطبهم عن تفسيرهم الخاص للإسلام.
ويقول إنهم ظلوا يعظون طوال الليل وكانت رسالتهم إلى سكان المدينة هي: “إننا هنا لأننا نرغب في تنظيف ماراوي التي تسمى مدينة إسلامية، ولكن فيها فساد ومخدرات وخمر وموسيقى. نحن هنا لتأسيس دولة الخلافة”.
بعد ذلك بعامين ،تشرد 100 ألف شخص نتيجة الحصار على ماراوي
بيد أنه كان ثمة الآلاف من المدنيين المحاصرين في المدينة ممن لا يريدون أن يحكمهم حلفاء الدولة الإسلامية.
عمت الفوضى في الأيام الأولى من الحصار وظل الناس قابعين في منازلهم يائسين وخائفين من الهروب خوفا من وقوعهم في حقل النيران بين الأطراف المتقاتلة.
جماعة “ابو سياف” تقتل رهينة كندي كانت خطفته في الفلبين
مسلحو “ابو سياف” يقتلون 6 جنود فلبينيين في ولاية باسيلان بالفلبين
كان تونغ باكاسوم يعمل في مبنى البلدية في ذلك الوقت، وكانت مهمته ضمن فريق الطوارئ لمكافحة الفيضانات والكوارث الطبيعية، لذا لم ينقطع هاتفه عن إصدار إشارات التنبيه عندما بدأ القتال.
ويقول: “عندما تلقيت أول نداء لعملية إنقاذ، فكرت مرتين قبل الخروج من البوابة لأنني لم أكن متأكداً من أنني سأعود حياً”، ويضيف: “لكن بعد ذلك يسيطر عليك الموقف كليا لذا تخرج مع يقين بأن لا خيار أمامك سوى الذهاب حتى لو كلّفك ذلك حياتك”.
مسجد باتو ، حيث احتجز الأب تشيتو
جمع تونغ فريقاً من المتطوعين من المسلمين الماراويين، وقاموا بمهمات إنقاذ متحدين بذلك الموت في منطقة القتال.
وقد أطلقت النيران على سياراتهم وهم يشقون طريقهم وسط ركام الحطام في الشوارع وبين المباني المحترقة.
قرر تونغ أنهم بحاجة الى تقديم أنفسهم كمحايدين بين طرفي القتال، فتذكر وجود كومة من خوذات البناء البيضاء في مكتبه، وقام بتقطيع فرشة قماش بيضاء كانت تغطي أحدى الموائد لصنع شرائط تلف على الذراع منها. وسرعان ما أطلقت وسائل الإعلام المحلية على مجموعته اسم “فرقة الانتحار”.
جمع تونغ فريقاً من المتطوعين من المسلمين لمهمات انقاذ في المدينة
صنع القنابل
لكن الأب تشيتو و 100 من الرهائن الآخرين ظلوا بعيدين عن متناول “فرقة الانتحار” محتجزين في قبو مسجد باتو الذي تحول إلى مركز للمسلحين.
وقيل لهم إنهم سيواجهون “إجراءات تأديبية” إذا لم يتعاونوا. فعرف الأب تشيتو أن ذلك يعني التعذيب، وخشي من أن يفقد عقله إذا ما تعرض له. لذلك عمل لدى المسلحين في أعمال الطهي و التنظيف، بل واضطر (وقلبه محمل بالأسى)وحتى لصناعة القنابل.
وساعدت أساليب حرب العصابات في المناطق الحضرية، بما في ذلك الثقوب التي كانوا يصنعونها في الجدران لإنشاء ممرات هروب آمنة، المقاتلين في تجنب القاء القبض عليهم. ولكن الجيش الفلبيني نفذ ضربات جوية متواصلة بمساعدة استخباراية أمريكية وأسترالية.
وباتت نمط الضربات الجوية أمرا مألوفًا للأب تشيتو، ويقول: “كانت هناك دائماً طائرتان، تلقي كل واحدة منهما بأربع قنابل، وكل تفجير يكون أقرب من السابق له” .
بدأت الغارات الجوية على مواقع المسلحين في المدينة في يونيو/حزيران 2017
ويضيف: “شئنا أم أبينا، مررنا بتجربة أكثر من 100 غارة جوية خلال الأشهر الأربعة التي قضيناها في الأسر”.
ويتابع: “لقد صليت وتوسلت إلى الله أن تضربني القنبلة التالية، لكنني غيرت رأيي لاحقاً ودعوت ربي ألا تصيبني القنبلة لأنني لا أريد أن أُضرب”.
ويكمل “ثمة لحظات لم أكن أعرف فيها كيف أصلي، شكوت إلى الرب، وقلت له إذا كنت قد أخطأت وتريد أن تعاقبني، فهذا كثير جداً علي، حتى إيماني اهتز، لدرجة إلقاء اللوم على الله”.
وفي 16 سبتمبر/أيلول، أصبح الجيش الفلبيني على مقربة من المسجد، لدرجة أن الأب تشيتو ومن معه كانوا يسمعون أوامرهم.
عند حلول الظلام، فكر تشيتو وآخرون أن هذه قد تكون فرصتهم للنجاة، فتسللوا من خلف المسجد وركضوا، وعلى بعد شارعين من المسجد التقوا بمجموعة من مقاتلي الجيش ونقلوهم إلى منطقة أمنة.
الأب تشيتو في الكاتدرائية
وبعد شهر، أعلن وزير الدفاع الفلبيني انتهاء أطول فترة حصار في البلاد، ومقتل الأخوين عمر وعبد الله المتمردين من قبيلة ماوت، وزعيم جماعة “أبو سياف”، إسنيلون هابيلون، وهزيمة من تبقى من مسلحين.
وقُتل خلال فترة الحصار الذي استمر خمسة أشهر، أكثر من ألف شخص.
وعلى الرغم من مرور عامين، لا تزال المدينة في حالة دمار وخراب. وكانت عملية إعادة الإعمار بطيئة بشكل مؤلم، حيث لا يزال 100 ألف شخص من المشردين يعيشون في مخيمات النازحين أو مع أقارب لهم.
وتعرضت منطقة مساحتها أكثر من 2 كيلو متر مربع في وسط المدينة الى دمار شامل فباتت تعرف بأرض الصفر (أي اشبه بالمنطقة التي تعقب الانفجار النووي) على اعتبارها أكثر منطقة تعرضت للخراب، وقارب مستوى الدمار الذي تعرضت له حجم الدمار الذي لحق بالرقة أو حلب أو الموصل. إذ تضرر جميع المباني في المنطقة وبدا الكثير مائلا للوقوع أو مستندا على بنايات أخرى، وتحول بعضها إلى حطام كامل.
مشهد الخراب في مدينة ماراوي في عام 2017
وهتف الأب تشيتو عندما كنا نرافقه في السيارة في المدينة عندما رأى الكاتدرائية التي أخذ منها، وأخرج يده من النافذة “هذه كنيستنا!”.
ولكن عندما دخلنا، تغير مزاجه، فقد تحولت الكاتدرائية إلى خراب. وغطت ثقوب الرصاص جدرانها، وتشققت أرضيتها، و فُجر السقف ولم يتبق منه سوى الهيكل المعدني الذي صريره يتعالى عند مرور الرياح.
وقد تكون هذه آخر مرة يرى فيها الأب تشيتو الكنيسة إذ من المقرر أن تهدم بعد ما لحقها من دمار.
وعند الاقتراب من “المذبح”، لفت تمثال يسوع انتباهي، كان هناك ثقب رصاصة في بطن التمثال، وقطعت يديه ووضع تاج من الريش على رأسه.
الفلبين تجري استفتاءً لمنح المسلمين حكما ذاتيا في منطقة مينداناو المضطربة
صور من داخل مدينة مراوي في الفلبين التي دمرها تنظيم الدولة الإسلامية
يتركنا الأب تشيتو للحظة ليصلي، ويقف في صمت ويده على تمثال السيدة مريم العذراء ويلتقط الجص المتناثر عليه وهو يبكي.
وقد منح تونغ، وهو أحد الأشخاص الذين فقدوا منازلهم أثناء الحصار، الآن مسكناً متنقلاً، ولكن اختار بدلاً من الإقامة فيه، العيش مع أقاربه واستخدم المسكن الجديد كمقر لمنظمة جديدة أنشأها وسماها “شبكة الاستجابة المبكرة” وهدفها منع جماعات الإسلام المتطرف من الحصول على موطئ قدم بين سكان المدينة.
وفي مقر الشبكة، كان هناك رجل يسير ذهاباً وإياباً وفي يده جهاز راديو صغير، يقوم بالاتصال منه يومياً بالمتطوعين البالغ عددهم 40 شخصاً في المنطقة، للإبلاغ عن علامات التطرف المبكرة ونقل المعلومات إلى السلطات، على أمل منع تكرار الحصار أو أي معارك مرة أخرى.
يوصف المجتمع في ماراوي بأنه قبلي لذا فأن الخلافات العشائرية فيه أمر مألوف. ويقول تونغ إنه في السنوات التي سبقت الحصار، استغلت الجماعات المتطرفة الضغائن بين العائلات لتجنيدهم في صفوفها. والآن، يحاول هو وزملاؤه لعب دور الوسيط لحل المشاجرات بين الأسر قبل أن تتفاقم.
وبات كل شيء هادئاً في أعقاب فك الحصار مباشرة، فقد تم القضاء على التركيبة القيادية للجماعات المسلحة التي تسببت في الحرب وخلفت الكثير من الدمار، وشاعت الآن رغبة كبيرة لإحلال السلام والمصالحة.
الأب تشيتو يلتقي مع طلاب الجامعة في صالة الجامعة الرياضية
لكن في الأشهر القليلة الماضية، لوحظ بعض الحوادث المثيرة للقلق، مثل مشاهدة المسلحين، وثمة تقارير عن شابات يحضرن تدريبات في معسكرات متطرفة وعمليات تجنيد تستهدف عناصر العائلات التي تضررت أثناء الحصار.
ويقول تونغ: “هناك مجموعة صغيرة تحاول إعادة تجميع صفوفها. والسبب الرئيسي وراء هذا هو ما حدث لماراوي. تضررت حياة الناس. وإذا استغرقت عملية إعادة التأهيل فترة أطول، فمن المؤكد أنه سيتم جذب المزيد من الناس للانضمام إليها (الجماعات المسلحة)”.
ولم يعد الأب تشيتو يعيش في ماراوي، لاعتقاده أنها مكان خطير للغاية، لكنه يزورها أحياناً لقيادة القداس في كنيسة مؤقتة أقيمت في صالة للألعاب الرياضية في الجامعة.
ويقول إن هذا هو المكان الوحيد في المدينة الذي يمكن للكاثوليك التجمع فيه بأعداد كبيرة والشعور بالأمان.
ويعد الأب تشيتو شخصية شهيرة في أوساط سكان منطقة، إذ يصطف الطلاب لأخذ صور شخصية معه.
إنه متفائل ومثالي ويحكي حتى أكثر التجارب إثارة للحزن، فهي آلية التأقلم والتكيف مع الظروف، بحسب تعبيره.
ويقول الأب تشيتو: “إن حس الدعابة أداة يمكن أن تخفف من وطأة الحياة وتعيد لنا التوازن لئلا نصاب بالصدمة أو الإرهاق الشديد، وبإمكانها تحييد القلق والتجارب المؤلمة”.
مازال الأب تشيتو يخضع للعلاج، قائلاً: “لقد فقدت توازني النفسي وشعرت بأني محطم ، وعلى الرغم من أنني سعيد لأنني نجوت جسدياً، إلا أن شعوري بالسعادة ليس كاملا، الزمن يشافي جروحنا لذا أحتاج إلى وقت أطول”.
لكن تشيتو متفائل بشأن آفاق السلام بين الأديان في ماراوي، “فقد تعلم الناس بعد الحرب الكثير من الدروس، لأن المسلمين والمسيحيين باتوا يعلمون جيداً أنه لن ينتصر أحد باتباع العنف، وسيكون الجميع من الخاسرين”.
عن بي بي سي