يُثير موضوع الدية في موريتانيا نقاشا منذ بعض الوقت، ويبدو من مخرجات ذلك النقاش أنه يوجد خلط كبير بين الدية الشرعية التي هي عقوبة جنائية، والتعويض المدني الذي يُلزم عقد التأمين بين المُؤَمَّن وشركة التأمين الأخيرة بدفعه للضحايا تغطية للمسؤولية المدنية للمؤمَّنِين المتسببين في وفيات جراء حوادث السير..
ومشاركة في النقاش الدائر حول المسألة، أحاول من خلال النقاط التالية ـ وإن ببضاعة مزجاة ـ تبيين مسائل تتعلق بالدية وتعويض التأمين في القانون الموريتاني..
1 ـ الدِّيَّة: طبقا لأحكام المادة 295 من القانون الجنائي الموريتاني تعتبر الدية عقوبة جنائية أصلية مقررة لجريمة القتل الناتج عن الخطأ والرعونة ، وزيادة على هذه العقوبة يعاقب الجاني تعزيرا بعقوبة الحبس ستة أشهر، أو غرامة مالية تصل مليوني أوقية..
ويعاقب بالدية كذلك، كل من أذهب المنافع العشر، ومن سبب داء عضالا، أو أذهب الأعضاء الزوجية في الجسم مثل اليدين والرجلين والعينين، أو الأعضاء الفردية مثل اللسان وعين الأعور..
واعتبارُ الدية عقوبة في القانون الجنائي الموريتاني يتسق مع المبدأ العام الذي أقره القانون في البداية عند تقسيم الجرائم، في المادة الأولى حيث اعتمد التقسيم الشرعي الاسلامي للجرائم، فنص على ما يلي: ، كما يتسق مع ما ذهب إليه علماء المسلمين قديما وحديثا، الذين صنفوا الدية دائما في أبواب العقوبات الشرعية..
وبما أن الدية في القتل الخطأ ـ وهي موضوعنا هنا ـ تحملها العاقلة مع الجاني، وفقا لأقوال فريق من أهل العلم ـ مع وجود أقوال أخرى بحملها على الجاني ـ فقد أشكل على بعض القانونيين اعتبارها عقوبة لأن حملها على العاقلة يخالف مبدأ أساسيا من مبادئ القانون الجنائي وهو مبدأ شخصية العقوبة، الذي يعني أن العقوبة لا تطال إلا الشخص المسؤول جنائيا عن الفعل المجرم والمعاقب..
لكن فقهاء القانون الجنائي الإسلامي المعاصرين ردوا على ذلك بقولهم إن الشريعة الإسلامية أقرت هذا المبدأ في صورة "لا يؤاخذ أحد بجريرة غيره"، ومستنده في القرآن الكريم ، وطبقته في جميع العقوبات باستثناء واحد، هو حمل عقوبة الدية على العاقلة في قتل الخطأ، وأجابوا عن ذلك بأجوبة عديدة منها أن حمل الدية على العاقلة كان معروفا قبل الإسلام فأقره الإسلام كخلق كريم يحمل على التعاون والتضامن، وأن تحميل الدية للعاقلة ليس من باب حمل جريرة الجاني على غيره بل من باب التناصر والتخفيف، كما أنه يحقق العدل لمصلحة المجني عليه، فلو حملت على الجاني وحده لحرم ضحية الإنسان الفقير من الإستفادة منها..
ومن جهة أخرى فإن المبدأ القانوني المتعلق بشخصية العقوبة ليس على إطلاقه كما يتصور بعض القانوننيين، فقد وردت عليه استثناءات في المدونات الجنائية الوضعية أيضا، ومن ذلك مثلا معاقبة جميع المشاركين في التجمهر بعقوبة التجمهر المسلح بمجرد وجود شخص واحد بينهم يحمل سلاحا ظاهرا أو مخفيا، وكذلك معاقبة مدير النشر عن جرائم النشر، وأمثلته عديدة..
والدية بنصوص الشرع الإسلامي عقوبة شرعية مقدرة، كالحدود، ويعني ذلك أنه ليس لأحد أن يتصرف في قدرها المعلوم شرعا، ولا استبداله بغيره، تماما كما لا يجوز ذلك في الحدود الشرعية..
لم يفصل القانون الجنائي الموريتاني في مسألة الدية، ولم يقنن تقديرها الشرعي المعروف، ولا على من تقع، ولم يُحِلْ في تنظيمها، أو تحديد قيمتها إلى قانون آخر، أو مرسوم مُطَبِّقٍ، ربما لأن قدرها معلوم من الشرع بالضرورة، وبدل ذلك ترَكَه من ضمن الأشياء التي لم يفصلها، لوجود أحكامها مفصلة في الشريعة الإسلامية التي أحال إليها فيما لم ينظمه، وذلك في المادة 449 منه ..
لا يوجد في موريتانيا نص قانوني آخر يحدد قيمة الدية بمبلغ مالي معين، ولكن يوجد خلط كبير في أذهان الناس بين الدية، وتعويض التأمين، وسيتضح ذلك من خلال هذه المعالجة..
2 ـ التَّعْوِيضُ: يخضع التعويض لمبادئ عامة تتعلق بمسؤولية كل شخص عما أحدثه لا بعمده فقط ولكن بخطئه أيضا، كما تنص على ذلك المادة 98 من قانون الالتزامات والعقود الموريتاني، وحق كل شخص وقع اعتداء على حق من حقوقه في المطالبة بالتعويض عما يلحقه من ضرر جراء ذلك الاعتداء، كما هو مقرر في المادة 17 من نفس القانون..
ولتغطية المسؤولية المدنية للأفراد، في ضوء صعوبة تحمل الشخص منفردا لمستويات التعويض الكبيرة، أخذت القوانين المعاصرة بقواعد التأمين على المسؤولية المدنية للأفراد..
يُجبر القانون الموريتاني كل الأشخاص على تأمين سياراتهم لتغطية مسؤوليتهم المدنية الناجمة عن حوادثها الحاصلة بالخطأ، وذلك بموجب عقد مسمى (عقد التأمين) يربط المؤمَّن والمُؤَمِّن، بموجبه يدفع الأول أقساطا محددة، يلتزم الأخير (شركة التأمين) بإعادتها في شكل تعويضات لصالح ضحايا خطأ ورعونة المُؤَمَّنِ..
ينظم القانون رقم 040/93 الصادر بتاريخ 20 يوليو 1993 قضايا التأمين في موريتانيا، ونص في المادة 48 منه بخصوص الضرر اللاحق بالورثة في حالة الوفاة، على ما يلي: .. وتطبيقا لهذا النص، قدَّر مرسوم تطبيقي صادر سنة 1993 تعويض ورثة الضحية بمبلغ تسع مائة ألف (900.000) أوقية، واستمر العمل بهذا المرسوم إلى سنة 2002، حيث تم الغاؤه بموجب مرسوم جديد بسبب الانتقادات المستمرة لضآلة مبلغ التعويض المحدد في ظل تزايد حوادث السير، ونقصان قيمة العملة، وبموجب المرسوم الجديد تم رفع المبلغ إلى مليون ومائتي ألف (1.200.000) أوقية، واستمر العمل بهذا المرسوم إلى سنة 2011 حيث أدى التزايد المفرط في ضحايا حوادث السير والسعي لتخفيف أضرارها إلى مراجعة مبلغه من جديد، وذلك بموجب المرسوم رقم 150/2011 الذي رفع قيمة التعويض إلى مبلغ مليونين وخمس مائة ألف (2.500.000) أوقية، في حالة تسوية موضوع التعويض دون المسطرة القضائية، وفي حالة اللجوء إلى القضاء يُزاد مبلغ التعويض بقيمة 20% من المبلغ المذكور..
بيد أن رفع قيمة التعويض في هذه المرة لم يتحقق له من الشهرة ما تحقق لسابقه، فما زال في أذهان كثيرة أن مبلغ تعويض التأمين هو مليون ومائتي ألف أوقية فقط..
ولا يشير قانون التأمينات، ولا المرسوم المطبق له المحدد لمبلغ التعويض من قريب ولا من بعيد إلى الدية، ولا إلى اعتبار تعويض التأمين تحديدا لقيمتها الشرعية..
3 ـ أَوْجُهُ التَّشَابُهِ وَالْإِخْتِلَافِ بَيْنَ الدِّيَّةِ وَالتَّعْوِيضِ: يمكن القول بأن أوجه التشابه بين الدية وتعويض التأمين في القانون الموريتاني تنحصر في أن التعويض يعتبر مالا شخصيا للضحايا أو ورثتهم الشرعيين، وهكذا مبلغ الدية، وأنه لا يمكن الحكم بالدية عند تنازل المستحقين عنها، وكذلك التعويض، وإلا فلا تشابه بينهما..
فالدية عقوبة شرعية محددة المقدار، تنشأ عن ارتكاب فعل موجب للمسؤولية الجنائية، طبقا للقانون الجنائي، تحملها العاقلة في الخطأ على قول، أو الجاني في ماله، على قول آخر..
وإذا كان القانون الجنائي الموريتاني لم ينظمها بتفصيل، فإن أحكامها التفصيلية مقررة أصلا في الشريعة الإسلامية (قدرها ـ نوعها ـ جهة تحملها ـ كيفية دفعها) وإليها أحال القانون الجنائي الموريتاني في مادته 449..
وتعويض التأمين ـ في حالة الوفاة ـ مبلغ محدد بمرسوم، تطبيقا لقانون التأمينات، كحق مدني ناشئ عن ضرر أصاب جراء فعل مجرم ومعاقب، تغطيه بموجب عقد قانوني مسمى شركة التأمين التي يلزمها دفع المبلغ وحدها دون غيرها، وفق مسطرة محددة في قانون آخر، هو القانون رقم 047/2011 بتاريخ 13 نفمبر 2011 متعلق بمسطرة تعويض ضحايا الحوادث التي تتسبب فيها عربات برية ذات محرك..
يتم توقيع عقوبة الدية على الجاني من خلال دعوى عمومية تقيمها النيابة العامة ضده أمام القضاء الجزائي، أما التعويض فدعواه مدنية يمكن رفعها بشكل منفصل عن الدعوى العمومية طبقا لأحكام المادة 4 من قانون الإجراءات الجنائية أمام المحاكم المدنية المختصة بقضايا التأمين، وهي الغرف المدنية بمحاكم الولايات طبقا لأحكام المادة 26 من قانون الإجراءات المدنية والتجارية والإدارية، كما يمكن أن ترفع أمام المحاكم الجزائية كدعوى مدنية تابعة للدعوى الجزائية، طبقا لأحكام المادة 3 من قانون الإجراءات الجنائية..
يعاقب بالدية كل من قتل بالخطأ بأية وسيلة كان القتل، بالسيارة، أو السلاح، أو الحجارة، أو غير ذلك، ولا يُستحق تعويض التأمين إلا في حالة القتل أو الإصابة بسيارة أو عربة ذات محرك مُؤَمَّنَة، ولو اعْتُبِرَ تعويض التأمين تحديدا للدية، لجَعَلَنا ذلك أمام حالة فظيعة من عدم المساواة، تقضي بدفع تعويض التأمين "دية" لمن قتلته سيارة مؤمنة، وإهدار دية من قُتل خطأ بوسيلة أخرى خارج نطاق التأمين، وهذا غير متصور عقلا ولا قانونا، ولا يطابق الواقع في القانون الموريتاني..
4 ـ الْخَلْطُ الْقَائِمُ بَيْنَ الدِّيَّةِ وَالتَّعْوِيضِ: ارتبطت الدية في أذهان الكثيرين ـ ليس فقط من عامة الناس بل من الباحثين والقانونيين والمسؤولين ـ بالتعويض المدني الذي ينص عليه قانون التأمين ومرسومه التطبيقي، ويتصور هؤلاء أن مبلغ التعويض المحدد بمرسوم تطبيقا لمقتضيات قانون التأمين إنما هو مبلغ الدية الشرعية المنصوص عليها كعقوبة في القانون الجنائي الموريتاني..
وربما ساعدت في ذلك عوامل، منها:
ـ أن جهات قضائية وقانونية أرادت عند صدور المرسوم المطبق لقانون التأمين أول مرة أن يكون مبلغ التعويض المنصوص عليه فيه بديلا عن الدية الشرعية لما يطرحه تقويم الدية بالنقود الورقية المتداولة من صعوبات، وكذلك صعوبة تحميلها للعاقلة، وهي بشكلها التقليدي مجموعات تخالف شكل الدولة العصرية، إضافة إلى الرغبة في مساعدة الضحايا، إذ يقول البعض إن تسليم ضحية أو ورثته في هذا الزمن حكما قضائيا يقضي بوجود دية له في ذمة عاقلة أحد من الناس، وهي منجمة في الأصل على ثلاث سنوات يكلفه من العبء أكثر مما يعطيه من الحق..
أذكر أن أحد كبار فقهاء القضاة وهو يدرسنا بالمدرسة الوطنية للإدارة سنة 2003 كان يعتبر أن تعويض التأمين يقوم مقام الدية الشرعية، ودافع باستمامة عن قيمته في ذلك الوقت وهي (1.200.000) أوقية، وقال إن تقديره تم على أساس قيمة الإبل، تبعا لأسنانها المقررة في الدية الشرعية، وفي مناطق مختلفة من موريتانيا، مع الأخذ في الاعتبار أن الدية منجمة على ثلاث سنوات، وما قد ينفقه مستحقوها في جمعها على العاقلة، وتقرر من ذلك ـ حسب قوله ـ أن دفع المبلغ المذكور دفعة واحدة أكثر نفعا لمستحقي الدية من مائة من الإبل منجمة على عاقلة في هذا الزمن، لكنه دفاع في غير محله، إذ لا جامع يجمع بين الدية الشرعية، وتعويض التأمين، ولا يمكن لأحد أن يتدخل بتغيير قيمة الدية، بما ينقصها عن قدرها الذي حدده الشارع صلى الله عليه وسلم، بناء على مثل هذه المقاربات، أما تقويم مائة من الإبل فممكن..
ـ أن المجموعات القبلية التي تتدخل لصالح الجناة في القتل الخطأ، بِتَحَمُّل الديات، تواطأت على اعتبار مبلغ التعويض المدني الذي يشير إليه قانون التأمين وينظمه مرسومه التطبيقي تحديدا لقيمة الدية الشرعية، بحثا عن الأخف، أو عملا باستشارات خاطئة، وأصبحت تدفع قيمته كدية في الغالب، بدل تقويم الدية وفق الشريعة الإسلامية، فعمت البلوى بذلك..
ـ ارتباط دعاوي التعويض ضد شركات التأمين أمام المحاكم في الغالب بالدعوى العمومية من أجل توقيع عقوبة الدية على الجاني في القتل الخطأ، وفي كثير من الأحيان يتم التصالح بشأن الدية خارج القضاء، فتحكم المحاكم بالعقوبة التعزيرية، وبالتعويض لصالح الضحايا ضد شركات التأمين..
ـ عدم تصدي المحاكم الجزائية عند توقيع عقوبة الدية على الجناة في القتل الخطأ لمسألة تحديد قيمتها طبقا لقواعد الشرع، وفق ما يتيحه الجمع بين أحكام المادتين 295 ـ 449 من القانون الجنائي، والاكتفاء في الأكثر بدل ذلك بصيغة الحكم بـ "الدية الشرعية"، وترك قيمتها دون تحديد، وهو الأمر الذي لم تثره الجهات المعنية بتنفيذ الأحكام القضائية كصعوبات تنفيذية..
والواقع أن هذا الخلط بين الدية الشرعية، وتعويض قانون التأمين ليس قائما فقط، بل مُطْبِقٌ، مع أن الفروق بينهما جلية واضحة يدركها كل ذي نظر..
ويمكن لهذا الخلط أن ينحو منحا إيجابيا لصالح الضحايا، وذلك باستفادتهم في آن واحد من الدية، تطبيقا للقانون الجنائي، ومن تعويض التأمين تنفيذا لعقد التأمين بين الجاني وشركة التأمين تطبيقا لقانون التأمين ومرسومه التطبيقي، وهو أمر متاح قانونا، إذا جاز شرعا أخذ ما زاد على الدية..
5 ـ إِشْكَالَاتٌ تَطْرَحُهَا الدِّيَّة: لا شك أن عدم تقنين القانون الجنائي الموريتاني لقيمة الدية بشكل يسمح للقضاء بالنص عليه تفصيلا في الأحكام المتعلقة بالإدانة في قتل الخطأ، يطرح إشكالا، لكنه إشكال يمكن تجاوزه إذا لجأ القضاة في المحاكم الجزائية المختصة بتوقيع عقوبة الدية إلى أحكام الشريعة الإسلامية طبقا للمادة 449 من القانون الجنائي لتقدير قيمة الدية، كما هي مقررة هناك، والحكم بها..
لكن ذلك لا ينهي الإشكالات التي تطرحها الدية، فمن الواضح اليوم أن العاقلة بمفهومها التقليدي المعروف لم تعد موجودة، في حالة كل شخص، وخاصة في الوسط الحضري، فقد تغيرت بنية المجتمع..
ولو فرضنا أنه توجد لبعض الناس عاقلة، فإنه من الصعب في هذا الزمن على الأشخاص تتبع أفراد العاقلة للحصول من كل منهم على ما يلزمه من الدية، كما أن توزيعها عليهم يطرح مشاكل حقيقية..
وربما يكفي من تفويت حق شخص الآن تسليمه حكما قضائيا يقضي بأن له في ذمة عاقلة فلان من الناس دية..
تَنَبَّهَ بعض فقهاء القانون الجنائي المعاصرين إلى هذه الإشكالات، وقرروا أنه في ضوئها يمكن للسلطات المختصة تشريع حمل الدية في القتل الخطأ على الجاني وحده، كما في دية القتل العمد بعد عفو أولياء الدم، وذلك إعمالا لأقوال فريق من أهل العلم، أو حملها على بيت مال المسلمين (الخزينة العامة للدولة) إعمالا لأقوال فريق آخر من أهل العلم..
وقد يساعد في حمل دية قتل الخطأ على الجاني وحده في موريتانيا، أن غالبية الحالات التي ترفع أمام القضاء منها يكون الجناة فيها معترفون بالقتل الخطأ، والعاقلة لا تحمل كما هو مقرر عمدا ولا صلحا، ولا اعترافا..
ويمكن تلمس حل آخر، يكمن في جعل مبلغ التعويض المقرر في المرسوم المطبق لقانون التأمين جزء من الدية، وحمل ما زاد عليه من قيمتها الشرعية على الجاني، أو العاقلة حسب ما يتقرر..
كما يمكن النظر في إحلال شركات التأمين محل العاقلة، إعمالا للتفسيرات التي توسع مفهوم العقل، وتحميلها الدية، إذا وجدت صيغة شرعية لعقد التأمين، وإن كانت شركات التأمين لن تقبل بذلك بسهولة لأنها سترى فيه سببا محققا لإفلاسها..
6 ـ إِشْكَالَاتٌ يَطْرَحُهَا تَعْوِيضُ التَّأْمِين: صدر قانون التأمين الموريتاني الحالي سنة 1993 مع خصخصة قطاع التأمين، ووسط حديث واسع عن دور كبير لأحكام القضاء المتعلقة بالتعويض عن حوادث السير في تعثر شركة التأمين الحكومية الوحيدة وقتها "أصمار"..
وفيما يُفهم أنه سعي لحماية شركات التأمين الخاصة الناشئة قامت الجهات المختصة ـ وبالطرق التنظيمية ـ حينها بتحديد مبلغ التعويض الذي يلزم تلك الشركات دفعه في حالة وفاة الضحايا جراء حوادث السير التي تتسبب فيها عربات مؤمنة، وذلك في الأول بمبلغ (900.000) أوقية قبل رفعه في مناسبتين لاحقتين على الوجه المبين أعلاه ليصبح الآن (2.500.000) في حالة التسوية دون القضاء، وبعد رفع دعوى أمام القضاء يحكم القضاء بالمبلغ المذكور، بزيادة 20% منه..
ويطرح هذا التحديد إشكالات كثيرة، خاصة وأنه مخالف لمبادئ القانون العامة التي تفرض أن يتم تحديد التعويض حسب كل حالة على حدة، ومن طرف القضاء بناء على خبرات..
ذلك أن التعويض يقدر حسب حجم الضرر، ولا شك أن الضرر اللاحق بورثة من جراء فقد متوفى يختلف من حالة لأخرى حسب العمر والإنتاجية والمردودية، والدخل، وهي معايير تأخذ بها كل القوانين، وأخذ قانون التأمين نفسه ومرسومه التطبيقي بشيء منها فيما يتعلق بالتعويضات عن ما دون الوفاة كالعجز المؤقت أو الدائم، لكنه أهملها في حالة الوفاة..
ثم إن تحديد هذا المبلغ لا يجعل للقضاء أي دور في الدعاوي الناشئة عن طلبات التعويض، فالقاضي في كل الأحوال ملزم بالحكم بالمبلغ المحدد سلفا، رغم اختلاف الحالات..
وهذا التحديد يهمل الأرباح الطائلة التي تحققها شركات التأمين من جراء استثمارها لأقساط التأمين المدفوعة من طرف المؤمنين، كما يهمل حقوق الضحايا..
وذلك في الوقت الذي يترك فيه القانون المدني العام تقدير التعويضات لسلطة القضاء المختص تبعا لمقدار الضرر الحاصل، وهذا ما يجعلنا في بعض الأوقات نرى أحكاما قضائية بالتعويض في أشياء لا تقاس قيمتها بقيمة الإنسان تفوق قيمتها بكثير قيمة التعويض المقرر للإنسان ضحية حوادث السير..
خُلَاصَة: من خلال ما تقدم يمكن الجزم بأن الدية شيء، وتعويض قانون التأمين شيء آخر منفصل ومختلف تماما، فالدية عقوبة جنائية مقدرة شرعا مصدرها القانون الجنائي، ويتم الحكم بها بواسطة دعوى عمومية تقيمها النيابة العامة ضد الجناة أمام المحاكم الجزائية المختصة، وتحمل على العاقلة، أو الجاني حسب الحال، وقيمتها ـ المعلومة شرعا ـ غير محددة في القانون الموريتاني، حتى الآن، وهي بذلك باقية على التحديد الشرعي المعروف، أما تعويض قانون التأمين فهو تعويض مدني يحكمه عقد بين المؤمَّن والمؤمِّن، ويتم الحكم به بناء على دعوى مدنية منفصلة أمام المحاكم المدنية المختصة، أو دعوى مدنية تابعة للدعوى العمومية أمام المحاكم الجزائية، وقيمته في حالة الوفاة محددة بمرسوم مطبق لمقتضيات قانون التأمين..
غير أن عقوبة الدية، وتعويض التأمين بما يطرحه واقعهما الحالي من إشكالات، يتعين في الحقيقة مراجعة إطارهما القانوني، بما يتيح تنظيمهما بشكل يرفع الخلط الحاصل بينهما، ويفي بالحقوق، ويقارب العدل أكثر..
القاضي أحمد عبد الله المصطفى