أهنئ فخامة الرئيس محمد بن عبد العزيز بانتصاره على نفسه، وانتصاره لإرادة شعبه، وإمضائه ما كان قد وعد به من عدم الترشح لمدة ثالثة، وبرِّه بقسمه على احترام الدستور. وإذا كانت لفخامته مآثر كثيرة، وإنجازات جليلة، سيذكرها الشعب على الدهر، فإن هذا لأعظمها. ولسوف يذكر التاريخ أنه أول رئيس عربي، طأطأ الرأس للدستور، ورَبَأ به عن أن يكون قطعة من الصلصال، تصوَّرها الأهواء كيف تشاء، وأول رئيس عربي، نزل عند رغبة شعبه الذي انتخبه في أن ينتخب غيره، وفتح له باب الأمل في أن تكون له دولة، ينعم فيها بما تنعم به الشعوب الديمقراطية من استقرار، وتناوُب سلمي على الحكم، وتوديع للتنازع فيه، واستعمال القوة في الوصول إليه. فأهم من بناء ميناء، ومحطة لتوليد الكهرباء، وأخرى لتحلية الماء، وأهم من بناء مطار، وشق طريق، وبناء مدرسة وجامعة -على أهمية هذه كلها- أن تُمَدَّ أسباب السلم في الوطن، وتُرسى قواعد الحكم، في بلد حديث عهد بالحضارة، حديث عهد بالسياسة، ما رأى منذ استقلَّ استقرارا، ولا نظاما سياسيا غير الهوى، والولع بالحكم. غير أني وددت لو أن إيفاءه بما وعد، ورضاه بما اعتمد شُفِعا بترشيح خليفة مدني، توكيدا لما نرجو أن يكون وجهةَ الدولة، وطمأنةً للشعب بأنه ودَّع الانقلابات، وبصدق إرادة التغيير، والجدِّ فيه، وأن الجيش فُطِم عن السياسة، وفُرِّغ لما تتفرغ له الجيوش في العالم الديمقراطي، من حماية الوطن، والدفاع عنه، والاشتغال باستحداث الكليات والأكاديميات، لتعليمه، وتدريبه، وترقيته، وبنائه على أسس علمية، ليكون جيشا محترفا، يثق به الشعب، وبأنه حارسه الأمين، وحاميه القوي. فإن الجيس إذا اشتغل بالسياسة، انصرف عن حماية الوطن، وكان خصما للشعب، وعائقا من عوائق التنمية، ووكرا يُؤتَمر فيه بالوطن، وتُفتَل الخطط للمكر به. ووددت أيضا أن ما غُيِّر من بنود الدستور عامَ أولَ شمل زيادة مادة تحرِّم على العاملين في القطَّاع العسكري كله الترشح للرياسة قبل أن تأتي على خروجهم منه خمس سنين، فذلك مما يعين على فطمهم عن السياسة، وتفريغهم لما يجب أن يتفرغوا له، إن كانوا مقتنعين به، وعدم تحصين النظام بمادة كهذه، يعني ترك الباب مشرعا لمن بيده القوة أن ينقلب عليه متى شاء. وإذ لم يكن ما وددتُ -(والله غالب على أمره)-، فهذه إشارات على معالي الوزير محمد بن الغزواني، قبل أن يشغله عن قراءتها زحام الناس والمهام، حَمَل عليها ما بان من ثقة الشعب بوعوده ثقة ترجح أن سيكون الرئيس المقبل.
1- تخليق الحياة: فالأمة، لا زاجر لها من الأخلاق يمكن أن ينتهك بعضها حرمات بعض، فيسفك دمه، ويأخذ ماله، ويستحل عرضه، ويكون التدافع بينها مغالبة مجردة من القيم، والمعيار الذي تَزِن به الأشياءَ هو القوة والثروة والمنصب، وكل وسيلة إليها مباحة. وقد فشا في المجتمع من ذلك ما لا يخفى، وأعان عليه أن البلاد لم يحكمها مثقف، وكان ما في وسع من حكموها أن يديروا شؤونها اليومية كيفما اتفق، وآية ذلك أن يأتي على “استقلالها” نحو من ستين عاما، ويزيد سكانها على ثلاثة ملايين، وليس فيها سوى بضع كليات، تسمى جامعة نواكشوط، وأُخَر، تسمى جامعة العيون، وما هي بأهم الكليات، ولا بعضُ ما يدرَّس فيها أهمَّ العلوم، ولكنه أقلها تكلفة، وأيسرها تدريسا، وأقلها غَناء في بناء الدولة والمجتمع، وهي -إلى ذلك- لا تعطي أكثر من الليسانس. واستقلت قبيلها تونس والمغرب، ولم تكن فيهما يوم استقلتا جامعة، وفيهما اليوم من الجامعات التي تدرس كل علم وفن، وتعطي أعلى الدرجات العلمية، ما هو معلوم، واستقلت الجزائر بعد موريتانية بعامين، ولم يكن فيها يوم استقلت سوى جامعة الجزائر، بَنَتْها فرنسة لأبناء المعمرين من الفرنسيين والأوربيين، وفيها اليوم ما يزيد على ثلاثين جامعة. ويتخرج الطالب الموريتاني في الثانوية، فلا يجد في وطنه جامعة، يدرس فيها، فيُعطَى، إن كان فائقا، منحة إلى الخارج، فإن كان غير فائق، لم يكن له إلا واحدة من تلك الكليات. ولا يجد المريض علاجا في وطنه، ولا جهازا للأشعة يعين على الكشف عن مرضه، فيذهب إلى المغرب، أو تونس، أو فرنسة، على نفقته أو نفقة الدولة؛ لأن وطنه -كما يقول لسان حاله- ليس أهلا لأن يكون فيه مستشفى، كما أنه ليس أهلا لأن تكون فيه جامعة. وهذا وحده دليل على تفكير من حكموا البلاد قبل الرئيس محمد بن عبد العزيز، والطريقة التي كانوا يديرون بها الدولة. إنه تاريخ، ينبغي أن يأنف من تكراره كل من تحدثه نفسه بأن يحكم، كما يستحيي من ذكره كل موريتاني، ولولا ما أردت التنبيه عليه، والتذكير به، من أن الحكم الذي يتأثَّره ليس مما يحرص عليه الكريم، وخير منه أن يشتغل المرء برعي الإبل والشاء، لا عليه ولا له، لآثرت الإمساك عنه؛ مخافة أن يطلع عليه من يتابعون ما أكتب من غير الموريتانيين؛ فينكشف لهم من سوآت الوطن ما يَعِزُّ عليَّ انكشافه.
2- الهوية: المجتمع الموريتاني حديث عهد ببداوة، وأكثر ما يستميل أمثاله من الحضارة قشرتها؛ لأنها أيسر ما فيها، ولأن عقوله تنبو عن إدراك روحها، وتخيُّر أمثلها وتمثُّله. من أجل ذلك غدا مهددا في هويته، كما يبدو في كلفه بالفرنسية، واستعمال ما شدا منها من غير حاجة، حتى صارت لغته خليطا مسيخا، وزادته وسائل الاتصال، وما تجلب من مفردات وأساليب، لا يتردد في استعمالها، لقلة ما يعرف سواده الأعظم من العربية والفرنسية، وعدم إدراكه ما في ذلك من ضرر، وعدم وجود سياسة لغوية في البلد. ومن عاتبهم فيما يأتون، أو بين لهم ضرره على الهوية، وجد منهم إعراضا، وإصرارا على التمادي فيه؛ لأنهم لا يدركون ما يقولون، وربما قال بعضهم إنه ضرورة من ضرورات الحياة. واستعمالهم الأرقام الفرنسية مثال على ذلك، فقد أخرجوا الأرقام العربية من التعامل، وغدا من المعتاد إذا سألت عاملا في سوق، أو محل تجاري عن ثمن شيء أن يجيبك بالفرنسية، فإن سألته: ما معنى ما يقول، تلعثم، كأنك تفاجئه بما لم يكن يحتسب، ولقد يظن أنك غير جاد في سؤاله، وإنما أردتَ عتابه، أو توبيخه؛ لأنه لا يظن أن في موريتانية من لا يعرف الفرنسية. وهم يكلمون بها غير الموريتانيين أيضا، ولذلك يتعلم منهم المقيم من الفرنسية أكثر مما يتعلم من العربية والحسانية، أما الموريتانيون غير العرب، فيصر بعضهم على ألا يكلموا إخوانهم من العرب إلا بالفرنسية، ويتظاهرون بأنهم لا يعرفون العربية، مع أنهم ربما يعرفونها، كأنما يريدون أن تكون الفرنسية هي اللغة التي يلتقون عليها، وهي سياسة فرنسة اللغوية في مستعمراتها. والعربية لغة المسلمين كافة، لأنها لغة كتابهم، ولسان دينهم وحضارتهم؛ فيجب أن تكون -كما كانت قبل الاستعمار- اللغة التي يلتقي عليها الموريتانيون كلهم، أما الفرنسية وغيرها من اللغات الأجنبية، فإنما ينبغي أن تستعمل في البحث العلمي، والاطلاع على ما فيها من العلوم والآداب، وليس في أكثر الذين يَكْلَفون بالفرنسية مَن يعرف منها ما يقرأ به صحيفة فما فوقها، ولذلك كان ما يعرفون منها يضرهم ولا ينفعهم.
3- بناء المؤسسات والفصل بينها: فبناء المؤسسات والفصل بينها خير ما يورِّثه حاكم، فهي التي تبقى؛ لأنها نهج في الحكم، إذا تعوده الناس، غدا جزءا من ثقافتهم، وغدوا حرَّاسا له، كما يحرسون ثقافتهم، ويأبون أن يُنال منها، كما تفعل الشعوب العريقة في الديمقراطية: تنزل دساتيرها منزلة العقائد، وتأبى أن يكون للحكام سبيل عليها. وأعني ببناء المؤسسات والفصل بينها قصر كل مؤسسة على مهمتها، واستقلالها باختصاصها، وعدم تدخل بعضها في عمل بعض، كاستقلال القضاء عن الحكومة، وقصْر عمله على إقامة العدل، وإنفاذ القانون، وقصْر عمل الجيش على حماية الشعب والوطن، وعدم تدخله في السياسة، وإخراج الحكم من الفردية إلى الحكم الراشد الذي يتوكأ على العلم والخبرة، وإنما يكون ذلك بالتمكين للعلماء والخبراء في إدارات الدولة، يفكرون لها ويخططون، ولا يُمضَى شيء إلا بعد استشارتهم، وأن تُنزل الحكومة نفسها منهم منزلة المرء من الدليل، يتجه حيث يوجهه، ويلزم ما يشير به عليه، وتَعْلم أن لا غضاضة عليها في ذلك، بل هو شرف لها؛ لأن إصابة الغرض رهن به. ومن المهم أن يُعلم أن مَن في موريتانية من العلماء والخبراء لا يكفون لتغيير ما بالبلد؛ لتواضع علم بعضهم وخبرته، وإن كانت عند بعضهم شهادات عالية، من جامعات مرموقة؛ فإن الإقامة في موريتانية تنسي المرء ما تعلم، لقلة المتاح فيها من مصادر المعرفة ووسائل التطوير، وبناء النفس، ثم ما فيها من الشواغل عن البناء والتطوير، من تطلب العيش، ورسوم الحياة الاجتماعية، ولأن الحكومات تجعل الرئيس هو العالم والخبير، وتجعل غيره تابعا، يسوِّغ ما يأتي، ويُتعظَّم به في العيون، وقد تكون تسميته في منصب من المناصب لغاية سياسية بحت، لا علاقة لها بعلمه وخبرته، وقد يُولَّى غيره ما كان ينبغي أن يتولى. وينبغي أن يستعان بالعلماء والخبراء الموريتانيين المقيمين بالخارج، والعلماء والخبراء المسلمين المهاجرين، وإن كانت استمالتهم باهظة، لكن ما يُجنى منها سيكون أعظم مما يُبذل فيها. ويمكن أن يستعان بخبراء الدول الإسلامية الناهضة، والدول التي ليست لها علاقات تاريخية سلبية مع العالم الإسلامي، كاليابان، وكورية الجنوبية، وسنغافورة، ويجب أن يُتجنب خبراء الدول الاستعمارية، فإنهم لا يدلون إلا على التبعية والتخلف، ومن الصعب أن يستقلوا عن سياسة بلدانهم في الاستتباع، والاستلحاق.
4- التعليم: وظيفة التعليم الأولى، ولا سيما التعليم العام، تربية الشعوب، وصياغتها على الوجه الذي تريد السياسة أن تكون عليه. وإذا صح ذلك، وجب أن يغير التعليم الموريتاني، ويستحدث له من المناهج ما يبلِّغ تلك الغاية، وأن تعاد صياغة الذين يتولونه حتى يكونوا أهلا لصياغة الشعب، بأن يُفهمَوا ماهية التربية والتعليم، وأنهما أكبر من تدريس معلومات مقررة، وامتحان في نهاية العام، وأن يُقدَروا على توليهما. ويحتاج ذلك إلى دورات مكثفة ودائمة للمعلمين والأساتيذ، وأن يبتعث إلى الدول المتميزة في تعليمها وتربيتها نخبة تُنتقَى، ممن هم أهل لأن يتولوا الإشراف على هذا البرنامج، وإعداده، وإعداد المعلمين والأساتيذ وتدريبهم، وإقامة الكليات والمعاهد التي تعدُّهم، وإدارتها، وبناء نظام التربية والتعليم المنشود؛ ليدرسوا تجربة تلك الدول دراسة تمكن من الاسترشاد بها، والحذو بها في صناعة الإنسان، فإن الاقتصار على مدرسة تكوين الأساتيذ في نواكشوط وخريجيها لا يغني مما ينبغي أن تصير إليه التربية والتعليم شيئا. ومن أفضل الدول التي ينبغي أن يبتعث إليها، وتقتبس تجربتها التربوية فنلندة، واليابان، وكورية الجنوبية، وسنغافورة، وسويسرة. ثم تصاغ المناهج التربوية على وفق الرؤية الجديدة، ويعاد بناء المدارس لتكون صالحة لأن يربَّى فيها، وتزوَّد ما ينبغي من المعامل والمختبرات. ثم استحداث الجامعات، لتلائم عدد السكان، وتجعل الأولوية فيها للتخصصات التي يحتاج إليها البلد أكثرَ شيء. ويجب أن يعاد النظر في لغة التعليم، لأسباب، منها أن التربية والتعليم يجب أن يُخْرِجا شعبا متجانسا، متفقا في الحد الأدنى من الثقافة والفكر والهوية، وأن تعدُّد لغات التعليم يعني تعدد الهويات، والولاء، والانتماء، أما اصطناع لغة أجنبية، فيعني إلحاق الشعب بالدولة التي يصطنع لغتها. هذا إلى ما ثبت في شرق الوطن العربي وغربه من أن التعليم باللغات الأجنبية كارثة؛ لما ترتب عليه من الضعف، وكثرة الرسوب، والانقطاع عن الدراسة، وأن للإصرار عليه أسبابا غير تربوية. فبحسب تقرير لوزير التعليم الموريتاني عام 1986 أن 15٪ فقط من التلامذة الذين يدخلون الابتدائية يصلون إلى الإعدادية، وأقل من10٪ يصلون إلى الثانوية، و10٪ إلى الجامعة، ويتسم التعليم -فوق ذلك- بالضعف الشديد، وكثرة انقطاع التلامذة، فلم يقلَّ متوسط الانقطاع عن الدراسة في الأعوام الأخيرة عن 55٪ ولم يتجاوز النجاح في امتحان الشهادة الإعدادية 57٪ ولم يتجاوز في امتحان الثانوية العامة 15%، في الدورين الأول والثاني، أما الدور الأول، فكان النجاح فيه دوما بين 3 و 6%. ثم إن الفرنسية فقدت قيمتها العلمية، ومكانتها العالمية، وأخذت فرنسة تعدل عنها إلى الإنجليزية، فقد قال الوزير الفرنسي الأول، إدوارد فيليب، في ندوةٍ صحفية، عقدها بلِيل، شمالي فرنسة يوم 23/2/2018: إن الإنجليزية الآن هي اللغة المهيمِنة، ولغة التفاهم بين الشعوب، وعلى من أراد أن تكون له صلة تعامُل بالعولمة أن يتكلم بها، وإن الحكومة الفرنسية ستجعل النجاح في اختبار الحصول على شهادةٍ دولية معترَفٍ بها في الإنجليزية إلزامياً في الثانوية والجامعة، وستتحمل عن الطلاب تكلفة الاختبار، وهي نحو 230 يورو. ويرى كثير من الفرنسيين منذ حين أنها آيلة إلى الزوال، كما قال ألان دوكيتش، عضو الأكاديمية الفرنسية، إنها منقرضة لا محالة، وإن مصيرها “مصير اللغات الهندية الأمريكية التي أصبحت ذكرى، ولم يبق منها إلا ما تردده بضع ببغاوات هرمة على ضفاف نهر أورينوكو”.
5- صناعة الأكثرية المعينة على إمضاء السياسة: وأريد بها أكثرية، تلتقي على مصالح الوطن، بغض النظر عن توجهاتها الفكرية، فصناعة هذه الأكثرية هي الأمل الأوحد للدول المستضعفة التي تريد أن تغير ما بها؛ فإن الدول الاستعمارية بالمرصاد لها، ولكل عمل، ينتهي بها إلى التقدم والاستقلال، وأكثر ما تتوسل به إلى ذلك اصطناع الصنائع، لإفساد ذات بين الشعوب، واختلاق أسباب التنازع والتخالف، فالاحتراب؛ لتشغل بها الحكومات عن البناء، وتضغط بها عليها للتنازل عن السيادة، والرضا بالتبعية، وإيثار منافع المستعمر على مصالح الوطن، هذا إلى أن في معارضات العالم الثالث من عدم النضج، والنفعية، والعصبية الحزبية ما يحول بينها وبين أن تلاقي الحكومات على المصالح العامة. وهذه الأكثرية، إذا كانت، لا يضرها من خالفها إلا أذًى، وهي زعيمة بأن تكشف أمر الصنائع، ومآرب غير الوطنيين من المعارضين، وتحافظ على اللحمة الوطنية، وتعين على إنجاز البرامج، وإبطال المكايد، والانتصار في الحرب التي ستشن عليها، لا محالة. ولسوف تتخلق هذه الأكثرية قبل أن يُحاول تخليقها، حين يقتنع الشعب بأن الرئيس يريد به خيرا، وأنه يدري ما يريد، وقادر على أن يبلغ ما يريد، فإن أكثر من ينتمون إلى الأحزاب لا ينتمون إليها ثقة بها، ولا اقتناعا منهم بالعمل السياسي، وإنما يتسلون بوعود الساسة عما هم فيه من البطالة، فإذا وُظِّفوا، آزروا من وظَّفهم. وسيكون هذا عونا على ما كان الرئيس محمد بن عبد العزيز يريد من تجديد الطبقة السياسية.
6- الإيثار العادل: وأعني به إيثار الفقراء والمستضعفين بمشاريع التنمية، والصحة، والتعليم، تعويضا لهم عما لحقهم من الظلم والهضم، واستئثار الأقوياء دونهم بما كان يجب أن يكونوا شركاء فيه. فالحكومة الوطنية هي التي تُنزل نفسها من الشعب منزلة الأب من أولاده: أَحبُّهم إليه “صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يُشفَى”. وحذارِ، ثم حذار أن تحسب أن الإيثار العادل أن تسمي ثلة من فئة من فئات الشعب في بعض المناصب، فإن تسميتهم لا تعالج مريضا، ولا تعلم جاهلا، ولا تطعم جائعا، ولا تؤوي بائسا. وإذا كان يُرْضي من تسميهم اليوم والفئةَ التي سُمُّوا من أجلها، فلسوف يسخطهما غدا أن تخرجهم منها، ولا بد أن تخرجهم؛ لأن المناصب لا تؤبَّد، ولا تُورَّث، وإنما هي ككرسي الحلاق: ليس بموضع قرار. وحذار ثم حذار أن تجعل للمناصب معيارا غير القوة والأمانة: (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، فإنها إذا أُسندت إلى غير أهلها، قامت قيامتها. وليتولَّ الرئيس خدمة الفقراء والمستضعفين بنفسه، ولا يكلها إلى غيره، ولا يجعل بينه وبينهم وساطة؛ فإنما انتخبوه ليخدمهم. ويجب أن تخصَّ قراهم وأحياءهم بالمدارس، والمصحات، والأعمال التي تغنيهم، وتصلح حالهم، ويبدأ بهم قبل غيرهم، حتى يستيقن أنهم نالوا حقهم غير منقوص: “إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه”.
7- التخطيط: فإنه يقيم الأعمال في الخيال قبل أن تقام في الواقع، ويتيح التدبر، والتفكر، والتبصر، والمراجعة، والتخير، ويجنب الخطأ، ويجعل الإقدام إقدام عارف بما سيؤول إليه عمله، أما الارتجال، فيحول دون ذلك، ولا يصلح أن تبنى عليه الدول. وينبغي ألا يُقصَر التخطيط على المدة التي يظن الرئيس أن سيقضيها في الحكم، فليس ذلك بتخطيط، وإنما التخطيط أن ترتاد الآفاق للبلد مدة طويلة (لا تقل عن خمسة وعشرين عاما)، ثم ينجز الرئيس ما قدر عليه من الخطط، وينجز من يخلفه ما لم يقدر عليه، وبهذا ينهج للبلاد نهجا، لا يخرج عنه من يريد بها خيرا إلا إلى ما هو خير منه. وأولى الأولويات في التخطيط التخطيط لبناء الإنسان، فإن الإنسان إذا صُنِع صَنَع، وإذا لم يُصنع كان كلاًّ، أينما يوجَّه لا يأت بخير. ومن بناء الإنسان أن يُطعم، ويُكسى، ويعالج، ويؤوى، فإن الجائع والمريض والبائس لا يصلحون لشيء. ومن التخطيط ترتيب الأولويات، فيجب أن تبنى المصحة قبل المدرسة، والمدرسة قبل الجامعة، والجامعة قبل الملعب، إلخ.