كانت عادة الجاهلية أن يستأجر على الميت نواح وبواك من النساء يقمن على عزائه بالندب، يخمشن على خدودهن، ويشققن ثيابهن، ويرفعن أصواتهن بأقوال.. يعددن محاسن الميت، وإظهار الجزع من القدر، والغلو في الحزن، والهدف من كل هذا أخذ الأجرة...
كان ذلك في الجاهلية، لكن النياحة تمارس اليوم باسم الإسلام، ولم تعد تعبيرا عن حزن زائف على هالك، وإنما غدت تعبيرا سياسيا تسجل به مواقف وتقبض عليه أجور. تكثر النائحات هذه الأيام على حلب التي "تذبح في صمت". وتشمت نائحات حلب في الموصل التي يباد أهلها وسط تعتيم كامل. ترى ما الفرق بين حلب والموصل الذي يبرر به الإخوان نياحتهم على الأولى وشماتتهم في الثانية؟ في كلتا المدينتين يتقاتل مسلمون؛ سنة وشيعة. وإذا كانت النائحات تندبن سنة حلب، فلماذا تشمتن في سنة الموصل؟ وإذا كانت تستنكر "جرائم المليشيات الشيعية في حلب"، فلماذا تسكت عن مجازر الحشد الشعبي، ولواء بدر في الموصل؟ ما الذي يميز سنة حلب على سنة الموصل، ويعطي أفضلية لشيعة العراق على شيعة سوريا؟ ليس الإسلام قطعا الذي تنتحب النائحات باسمه؛ فهو براء مما يجري في الموصل وحلب على حد سواء، إذ ما يجري في المنكوبتين من قتل على الهوية، ودمار، سياسة لا دين فيها.
ولما كان الأمر يتعلق بالسياسة حصرا، يصبح للنحيب والشماتة تفسير معقول... في حلب يصبح الإرهابيون، والقتلة على الهوية مجاهدون، وثوار من أجل الحرية والديمقراطية، والكرامة... لسبب واحد هو أن الغرب، وأذنابه في المنطقة يقفون خلفهم لأنهم وقود مصالحهم. أما في العراق، حيث يقاتل الغرب مع الحشد الشعبي، وفيلق بدر، ويساند حكومة العبادي فإن أهل الموصل كلهم دواعش تجب إبادتهم بعيدا عن الكاميرات، والمراسلين، والمغردين، والمدونين على شبكات التواصل الإجتماعي.. ينبغي أن تنتهي الجريمة دون شهود، خلف ستار حديدي تحفر فيه القبور الجماعية تحت جنح الظلام، ويتحقق فيه نصر نظيف؛ بلا جثث ولا أسرى...
في حلب يقف الغرب وأذنابه ضد نظام تقدمي مثل آخر قلعة في وجه الاستعمار الجديد، وربيبته الصهيونية فضلل البسطاء باسم الحرية التي ظهرت نتائجها الباهرة في ليبيا، واستأجر العملاء الملتحفين بالدين لنشر دعايته... ظل القرضاوي صامتا وسنة الموصل يذبحون من الوريد إلى الوريد، حتى إذا تأكد تحرير حلب الشرقية من سيطرة العصابات والقتلة هب يغرد متباكيا، ويدون.. مستنهضا المسلمين للدفاع عن حلب.. “لك الله يا حلب، لك الله يا شهباء، لك الله يا عروس سورية، العروس التي انقلب عرسها الى مأتم... يا إخواني في حلب، يا إخواني في هذه الأرض الطيبة، أنا معكم ، وكل المسلمين معكم، أبناء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها في آسيا وإفريقيا، المسلمون في كل مكان معكم، لن يتركوكم أبدا..”
إنه جهاد تويتر، ونفير الفيس الذي يجعل الشيخ الزنم يطمئن عروس المأتم، دون خجل.."أنا معكم"، وهو في الدوحة يتعاطى ما يستطيع من ملذاته، ويعد العصابات ويمنيهم.." أبناء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها في آسيا وإفريقيا، المسلمون في كل مكان معكم، لن يتركوكم أبدا..” و قد تلقى الشيخ صدى صوت لمحيسني، هذه المرة دون صورة، معتذرا لأهل حلب.."إني أرى ما لا ترون..."
وهنا، في موريتانيا، يردد الببغاوات صدى صوت لمحيسني الذي ملأت صورته اليوتيوب مرغبا في الشهادة، محذرا من التولي، حتى إذا طوقته جحافل الجيش العربي السوري، نزل إلى قبو مظلم ليسجل بصوت مرتعش اعتذاره لأهل الحلب الذين طالما مناهم النصر، ووعدهم بالجنة حتى إذا التقى الجمعان نكص على عقبيه، فعل "الشيخ النجدي"... يسير الإخوان المظاهرات دفاعا عن سنة حلب، وكأن الذين يذبحون منذ شهور في الموصل ليسوا من أهل السنة!!!
إن تظاهر الإخوان، وبكاؤهم ليس على الضحايا السنة، ولا من أجل الإسلام، كما يزعمون، إنما هي مواقف سياسية مقبوضة الثمن من الذين دمروا ليبيا وسط تكبير الإخوان... فحيثما يكون الغرب فثم مصالح الإخوان الذين اشتراهم الغرب ليضللوا المسلمين البسطاء، أصحاب العواطف الصادقة نحو الإسلام والمسلمين... لكن البكاء على حلب، والشماتة في الموصل أظهرت حقيقة "فقه الإخوان السياسي".. الموقف من الجلاد، يحدد الموقف من الضحية... لذلك حين يذبح الأمريكان السنة في الموصل يهلل الإخوان، وحين يحرر الجيش العربي السوري شرق حلب من العصابات يهتف غلمان الإخوان في الشوارع، ويغرد مشايخهم، ويدون مفكروهم انتصارا لحلب الشهباء... ويخرج "المجاهدون" كالجرذان من أقبية بيوت حلب المحررة رافعين الرايات البيضاء...
سيدي محمد ابه