مع أفول نجم "داعش"، اشتد هاجس عودة المقاتلين التونسيين من بؤر التوتر إلى بلادهم، ليتجدد السجال بشأن مصير عودة من يسمون "القنابل الموقوتة" تحت مظلة قانون "التوبة".
إن أكثر ما يخشاه التونسيون اليوم هو عودة "أبنائهم" المقاتلين الذين يعدون بالألوف من بؤر التوتر في ظل دحر التنظيم بسوريا والعراق وليبيا، ليؤرق مصير عودتهم التونسيين نخبا وشعبا، لا سيما بعد تصريحات رئيس البلاد الباجي القائد السبسي، والتي أثارت موجة من الجدل.
فالرئيس التونسي قال خلال تصريح إعلامي إنه لا يمنع أي تونسي من العودة إلى بلاده، لأنها حق دستوري. وقد تزامن ذلك مع تصريح ثان له لوكالة الأنباء الفرنسية، أكد خلاله أن "العديد من المقاتلين يرغبون في العودة إلى تونس ولا يمكن منعهم من العودة إلى بلدهم".
لتعيد هذه التصريحات موضوع المقاتلين التونسيين محور جدل في تونس، في الوقت الذي يحذر فيه خبراء الأمن والإرهاب من عودة "قنابل موقوتة" قد تعفو عنهم الدولة في إطار ما يعرف بقانون التوبة.
لا، لصكوك الغفران!
وتتحدث تقارير أمنية وقضائية عن عودة ما يقارب 800 مقاتل تونسي من العراق وسوريا، بينما تشير الإحصاءات الرسمية إلى عودة نحو 560 شخصا، ويقبع 260 منهم في السجون، ووضع 92 آخرون تحت الإقامة الجبرية في الفترة بين 2012 ويونيو/حزيران 2016.
هذه الأرقام زادت من مخاوف التونسيين من عودة هؤلاء بعد سلسلة هزائم مني بها تنظيم "داعش" مؤخرا، ليخرج بعضهم عن الصمت ويقرر الاحتجاج سلميا، تعبيرا عن رفضهم استعادة الدولة أبناءها "الضالين".
وعن هذه الحركة الاحتجاجية المزمع تنظيمها في الـ 24 من ديسمبر/كانون الأول، تحدثت صاحبة المبادرة شيماء الماجري لـ RT، وقالت إنها أطلقت حملتها عبر الفيسبوك ليتفاعل معها المجتمع المدني بشكل كبير، وينضم إليها عدد كبير من الجمعيات والشخصيات الرافضة عودة الإرهابيين إلى تونس.
وأوضحت المتحدثة أن المسيرة المقرر تنظيمها الأسبوع المقبل بشارع الحبيب بورقيبة ترمي إلى إبلاغ صوت التونسيين إلى قادة الحكومة بقصد حمايتهم من الخطر القادم في ظل غياب آليات لمحاسبة المتطرفين الذين دأبوا على سفك الدماء والقتل.
وشددت الناشطة المدنية على أن التونسيين لن يسمحوا بعودة هؤلاء مرة أخرى، ولن تفيدهم صكوك الغفران أو توبتهم المزعومة في احتضان تونس إياهم من جديد.
كما يخشى التونسيون أن يترافق ذلك مع عودة الحديث في دوائر القرار أو في الإعلام التونسي عما يعرف بـقانون "التوبة" الذي طرح كفكرة لأول مرة في 2013 في الحكومة السابقة.
قانون الإرهاب يحمي التونسيين
وفي حوار مع رئيس المركز التونسي لدراسات الأمن الشامل، العميد مختار بن نصر، أكد لـ RT ضرورة التعامل مع ملف الإرهابيين العائدين من سوريا وفق قانون مكافحة الإرهاب؛ مشيرا إلى أن الفصل 33 من قانون الإرهاب يقضي بمرور العناصر الإرهابية العائدة من بؤر التوتر عبر السلطة القضائية في حال ثبوت تورطها في إراقة الدماء، ومعاقبتهم على أفعالهم.
وأوضح العميد أن مسألة عودة المقاتلين التونسيين هي قضية شائكة، لأنه يجب التطرق إلى جميع أصناف العائدين، الذين سيختار بعضهم العودة عبر معابر غير قانونية.
وشدد رئيس المركز التونسي للأمن الشامل في حديثه على وجوب تطبيق القانون على المقاتلين العائدين من مناطق النزاع ومحاسبتهم؛ مضيفا أن كل من تورط في الإرهاب سواء داخل التراب التونسي أو خارجه يجب أن يحاسب.
وتطرق الخبير إلى المخاطر الناجمة عن عودة هؤلاء على الأمن القومي التونسي، مرجحا انخراطهم في الخلايا النائمة الموجودة في تونس أو خارج البلاد، وبالتالي لا بد من إخضاعهم للمراقبة الأمنية الدقيقة في حال عدم ثبوت تورط هذه العناصر في جرائم إرهابية وفي حال تبينِ العكس، فإن قانون مكافحة الإرهاب سيطبق عليهم.
مركز إدماج العائدين
وفي خطوة، لمعالجة هذه المعضلة التي أصبحت كابوسا مخيفا للتونسيين، قدم المركز التونسي للأمن الشامل مقاربة شاملة إلى وزارة الداخلية، وطالبوا بتشكيل مركز للتأهيل والإدماج في محاولة لإصلاح العائدين وإدماجهم من جديد في المجتمع، أو لتجنب خطرهم في حال عدم نجاح عملية إصلاحهم.
ويتفرع المشروع إلى 3 فئات: الفئة الأولى، تعنى بالعائدين من بؤر التوتر. وهؤلاء يجب أن يمروا عبر أجهزة القضاء ثم يودعون في المركز المختص. والفئة الثانية، ممن قضوا عقوبة بالسجون بتهم الإرهاب، ولا بد أن يمروا بفترة تأهيل. والفئة الثالثة، هم الذين منعوا من السفر ولا بد من تأهيلهم ومنحهم أملا جديدا.
ولفت إلى أن هذه المراكز قد تكون تحت إشراف وزارة الدفاع أو الداخلية، ولكن حتى اليوم لم تضع مقاربة واضحة على المستوى الحكومي واتخاذ القرارات المناسبة.
وأفاد العميد بن نصر بأن تونس لا تملك حاليا الرؤية والخبرة الكافيتين لتقييم التجارب الدولية في هذا المجال، لكن يمكن الاستفادة من تجارب دول كالدنمارك وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. وعلى الرغم من أن لهذه الدول مجموعات صغيرة من المقاتلين العائدين، فإنها شكلت مراكز مختصة يشرف عليها خبراء.
غياب الضمانات
بدوره، كشف سالم لبيض وزير التربية السابق والنائب عن حزب الشعب لـ RT أن تونس شهدت عام 2011 العفو التشريعي العام حيث عفا القضاء عن مجموعات عنيفة وأسقطت بحقهم المتابعة الأمنية، ما سمح لهؤلاء بإعادة ترتيب بيتهم وتنظيم صفوفهم وسط مناخ الحرية الذي كان سائدا آنذاك بتونس، واستطاع بعضهم المشاركة في الحياة السياسية والمدنية أيضا.
وأضاف محدثنا أنه عند طرح ما يسمى بقانون التوبة فلا يوجد ضمانات جادة لدمج العائدين من الحروب في الحياة العامة، ضلا عن أن المجتمع المدني لفظ عودتهم قبل وقوعها.
وبالتالي، يعتقد سالم لبيض أن مقاربة التوبة لا تحظى بقبول الرأي العام في تونس، ولا بد من البحث عن مقاربات أخرى تضمن حماية الدولة والمصلحة العليا.
"قنابل موقوتة" على وحدة تونس
من جانبه، أكد المتحدث باسم نقابة الائمة فاضل عاشور معارضتهم عودة المقاتلين إلى تونس لما يحملونه من فكر تخريبي وإرهابي يشكل خطرا على وحدة التونسيين، ووصفهم بالقنابل الموقوتة التي قد تشتت وحدة التونسيين.
وأشار في هذا السياق إلى طرح النقابة مبادرة لفهم مصطلحات دينية كمفهوم الردة والتكفير التي كانت مدخلا لاستقطاب الشباب المغرر بهم في ظل غياب المفاهيم الحقيقية.
ولم يستثن عاشور المحاسبة القانونية في حال عودتهم. بيد أنه شدد على ضمان توفير مختصين من الجانب الديني والاجتماعي والنفسية لإعادة إدماجهم مرة أخرى في المجتمع.
قانون التوبة والسيناريو الجزائري
مع تجدد طرح قضية ما يسمى بقانون التوبة أو العفو عن المقاتلين الراغبين بالعودة إلى تونس، استعاد بعضهم التجربة الجزائرية في هذا الخصوص أو بما يعرف بقانون الوئام المدني، وهو قانون اقترحه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بعد وصوله إلى السلطة في أبريل/نيسان 1999، لإنهاء الأزمة الأمنية والسياسية التي كانت تعانيها البلاد فيما عرف بـ "العشرية السوداء".
وأصدرت الرئاسة الجزائرية قانون الوئام المدني يوم 13 يوليو/تموز 1999، وأُقر رسميا بنيله تأييدا واسعا في استفتاء شعبي أجري في 16 سبتمبر/أيلول 1999.
وقد عرض هذا القانون المؤلف من 6 فصول تضمنت 43 مادة، وانتهى مفعوله يوم 13 يناير/كانون الثاني 2000 على المواطنين الجزائريين، الذين "حملوا السلاح ضد الدولة عفوا شاملا أو جزئيا بشرط ألا يكونوا ارتكبوا مجازر جماعية أو عمليات اغتصاب أو اعتداءات بالمتفجرات في أماكن عامة" مقابل تخليهم عن القتال وتسليم أنفسهم وأسلحتهم إلى السلطات.
وقد حذر الخبير الأمني مختار بن نصر من احتمال تكرار السناريو الجزائري بعد عودة ألوف المسلحين إبان انتهاء الحرب الأفغانية، مطالبا السلطات الأمنية التونسية بتوخي اليقظة وتطبيق بنود قانون الإرهاب.
سياسة المراحل
هذا، وفي محاولة لفهم هذه المسألة من منظور علم الاجتماع، قال عادل بالكحلة لـ RT إنه الأوان للتعامل مع ملف عودة هؤلاء المقاتلين من مناطق الحرب بمقاربة علاجية بعيدة عن الخطاب المغلق.
ودعا المختص في علم الاجتماع إلى تنشئة اجتماعية جديدة للإمامة بتونس وبعث مجلس أعلى لنشر الإسلام السلمي مؤلف من أطراف حكومية ومعارضة، ومجتمع مدني لكسب المعركة الجديدة ضد الإرهاب التي قد تخسرها تونس في ظل تعنت بعض الأطراف واعتمادها خطابا قديما في مواجهة العودة الحتمية لهؤلاء.
ومما لا شك فيه أن قضية عودة المقاتلين التونسيين من بؤر التوتر هي من أهم القضايا المطروحة على دوائر القرار في تونس، فيما يظل الهاجس الحقيقي من تشريع قانون العفو عن "قنابل موقوتة" قد تجر البلاد إلى الخراب والدم.
روسيا اليوم