كثيرون هم الذين يسرفون في الشهادة بتقدم إعلام موريتانيا على نظيره العربي من حيث مساحة حرية التعبير والرأي، ولكنهم لا يعلمون أن هذه الحرية لا تصحح سلوكا أو ترد ظلما أو توجه نصحا أو تقوم اعوجاجا، كما أنهم لا يدركون أن هذه الحرية ليست وليدة وعي ديمقراطي أو مستوى متقدم من التحضر والرقي و المدنية بقدر ما أنها "حالة مجتمعية" تجد كل تبريرها في حالة الفوضى الكبرى "السيبة" التي سار على وقع نظامها قرونا أهلُ هذه البلاد بقيام حالة تعايشهم على أساس تقسيمهم إلى طبقات متباينة في سلم "إكراهي" قضى على حالات الاقتتال التي تبيد المجتمعات و حافظ على الاستمرارية بقواعد ذاك التفاوت و التكامل المصطنع الأطر و القوالب و القواعد.
واتفق في هذه المنظومة على أن حرية التعبير هي القاسم الوحيد المشترك بين كل فئات وشرائح المجتمع يتساوى فيه الجميع لتخفيف ضغط الظلم مع "سبق إبطال مفعوله" في حدود ما اتفق على التعطيل به. وقد شملت منظومة حرية التعبير هذه نمطي "المدح" و"الهجاء" نثرا في قوالب معروفة وشعرا مقفى له أبحره وطرائق إلقائه وتمريره وإذاعته ونشره. كما اتفق على أن صاحب الكلمة مهاب اللسان له من الجميع الأمان والعطايا.
وجاءت الدولة الحديثة ليتأكد فيها مد سلاطة اللسان في ظل سحب حالة الاحتكار التي كانت تمارسها شرائح وفئات معلومة وليتساوى كل من سولت له نفسه ممارسة التعبير الحر تحت إسم الصحافة والاعلام ليختلط الغث الزبد بالسمين المطمور.
كما لا يعلم المعجبون بحرية الاعلام الموريتاني أن الصحافة المطبوعة لم تصدر يوما جريدة بالألوان وأن الإذاعات لا تمتلك مساطر خاصة والتلفزيونات أبواق ملاكها، وأن العاملين في الحقل لا يتمتعون بحقوق ثابتة أو حماية من أي نوع، وأن التكوين وتحسين الخبرة لا يعرف إليهم طريقا. إنها حرية "السيبة" تكرر نفسها ببعض أدوات العصر... ليس إلا!
غياب النخب عن منصات الحضور
"محاور"، برنامج ثقافي من الصنف الرفيع يحاور أسبوعيا على قناة فرنسا 24 كبار المفكرين العرب الذين يبلون حسنا في ساحة الفكر القومي والعالمي بما يقدمون من بحوث أكاديمية عالية المحتوى، غزيرة المحتوى ومجددة في كل التوجهات الفكرية والعلمية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية التي تتناولها جميعها ومغطية مجمل اهتمامات الإنسان العصري المتعلقة بتوازناته النفسية والثقافية والعلمية والمادية والروحية والإنسانية من منطلق ثلاثية أبعاد إرث الماضي ومشغل الحاضر واستشراف المستقبل.
وقد كشف هذا البرنامج منذ إذاعته أول مرة النقاب عن عدد كبير من المفكرين مصرين وسوريين وأردنيين ويمنيين ومن دول الخليج وتونس والجزائر والمغرب وليبيا، أنجبتهم الأمة فأبهروا بغزارتهم وإضافاتهم كما أثروا بمؤلفاتهم القيمة المكتبات العربية والإسلامية والعالمية.
واللافت المحزن هو غياب المفكرين الموريتانيين من أهل المستويات الإجتهادية عن استضافة هذا الاستديو وغيره من المنصات العربية والعالمية لنفخر بهم ونعلم إثراءاهم المحسوب لنا.
لكن الحقيقة المرة التي نأبى الاعتراف بها والعمل على مواجهتها بالنزاهة الفكرية والأمانة العلمية لتصحيحها، هي أن المستويات لدى نخبنا متدنية وانشغال أفرادها الجامعيين بالشهادات والأكاديميين بالألقاب منصب على التحصيل المادي وتقلد المناصب السهلة المدرة بالتقرب إلى سدنة المال العمومي والجاه التقليدي الرجعي والسياسيين المرحليين والموسميين وأصحاب السلطة.
فهل تظل هذه النخب اسما على غير مسمى ويظل غطاؤها الواهي متمثلا في الادعاء بالنبوغ والألمعية على خلفية الغياب الصارخ عن منصات العطاء والنبوغ وتسجيل التميز؟
نخب المزاجية
لا يشك الكثيرون مطلقا في عفن السياسة في بلد "التناقضات الكبرى" الذي يبني جل أهله ويحددوا مواقفهم فيه من العهن القبلي والرجعي المنفوش وبالخطاب الجريئ والمغشوش من دون أدنى تردد أو أي اعتبار للمعيارية السياسية المتعارف عليها، ناهيكم عن انتهاكهم في تعمد لا يخفى على قصير نظر لمنظومته الأخلاقية النظرية والدينية الدنسة باعتبارات السيباتبة. كما أنه لا شك في أن العفن يطال دائرة النخبة المتعلمة والمزاجية بكل فصائلها و مكوناتها و كافة اهتماماتها؛ عفن تعبر عنه التقلبات المزاحية التي يمارسها جهارا أغلب أفرادها بلا تردد أو تحفظ ما بين الأحزاب الهلامية و المرشحين للرئاسيات والسباق إلى دعمهم و احتضانهم؛ تقلبات هي الأخرى لا تراعي قيما و لا تخشى انتقادا ينعكس عليها سلبا.. فوضى عارمة "مقبولة" لانسجامها مع العقلية العامة الموجهة للسلوك والتفكير.
فهل يستقيم الحال على هذا النحو، بهذا الأسلوب وبتلك المسلكيات في القرن الواحد والعشرين؟