ينظر إليه البعض على أنه "تصرف خبيث" من المهندس النمساوي الذي أشرف على بناء المسجد، ويرى آخرون فيه رمزاً للتسامح الديني في العصر الذي بني فيه. ويكتفي فريق ثالث بإبداء دهشته من دون الانضمام إلى أي من الفريقين. هي الصلبان المسيحية التى تزين واجهة مسجد الرفاعي في القاهرة، وتعلو أحد الأضرحة التي يضمها ضمن جنباته. ما هي قصة هذا المسجد؟ وكيف وضُعت الصلبان جنباً إلى جنب مع الآيات القرآنية؟
وحسب موقع "رصيف 22" .. يقع مسجد الرفاعي فى منطقة الخليفة في القاهرة، في مواجهة قلعة صلاح الدينالأيوبي، وبجوار مسجد السلطان حسن، ووسط مجموعة كبيرة من الآثار التي تؤرخ للعصور الإسلامية التي مرت بها مصر.
مدير منطقة آثار الخليفة جمال الهواري يشير إلى أن السيدة خوشيار هانم، والدة الخديوي إسماعيل، هي صاحبة فكرة إنشاء هذا المسجد. ويقال إنها نذرت نذراً لله، أنه إذا مرت الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، أثناء حكم ابنها، فستقوم ببناء مسجد. وحدث ذلك بالفعل، فعهدت إلى مهندس القصور الملكية ورئيس دائرة الأوقاف حسين فهمي باشا، بوضع التصميم الهندسي للمسجد.
وفي موسوعتها "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون"، تشير الدكتورة سعاد ماهر إلى أن المسجد لم ينُسب لـ"خوشيار"، رغم أنها صاحبة فكرة إنشائه، إنما سمي الرفاعي. واستندت ماهر في توضيح ذلك إلى المؤرخ تقي الدين المقريزي، الذي كتب أن موقع المسجد كان يشغله مسجد صغير من العصر الفاطمي لذخيرة الملك جعفر متولي الشرطة ووالي القاهرة، وكانت هناك زاوية صغيرة عُرفت باسم "الزاوية البيضاء" أو "الزاوية الرفاعية".
كانت الزاوية مقراً لشيوخ الطريقة الرفاعية، وبعد موتهم أُلحقت بها قبورهم. وحين شرعت والدة اسماعيل في بناء المسجد، خصصت بعض القبور لنقل رفات المشايخ، لكن العامة لم يعرفوا المسجد باسمها، وعرفوه باسم الرفاعي.
وتضيف ماهر أن بناء المسجد توقف عام 1885، بعد أن ارتفع مترين عن سطح الأرض، بسبب وفاة خوشيار هانم. وظل العمل متوقفاً مدة ربع قرن، إلى أن جاء الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1905، وعهد إلى أحمد خيري باشا مدير الأوقاف الخصوصية بإتمام المسجد. ثم عهد خيري إلى ماكس هرتز باشا، مهندس الآثار العربية حينذاك، بهذه المهمة. افتتح المسجد رسمياً للصلاة عام 1912.
لا يمر شخص بجوار المسجد من دون أن تقع عيناه على الصلبان التي تزين واجهته، ويبدي دهشته، التي تتزايد في حال دخل إلى المسجد، إذ سيلفته وجود ضريح لجنانيار هانم شقيقة فريندنال ديلسبس، مهندس قناة السويس، التي تزوجها الخديوي إسماعيل. هذا الضريح مصمم على طراز العمارة المسيحية ويعلوه صليب أسفله آيات قرآنية، أمر من شأنه دفع الزائرين إلى سؤال مفتشي الآثار المشرفين على المسجد عن هذا المزج الغريب.
"ما إن نبدأ في سرد تاريخ المسجد حتى تزول لدى البعض وطأة الدهشة شيئاً فشيئاً، بينما يغرق آخرون فى بحور أخرى من عدم المنطقية". هكذا يقول محمود عبد الحميد مفتش أثري في المسجد. ويشير إلى أن مهندس نمساوي يدعى ماكس هرتز باشا ومساعده الإيطالي كارلو فيرجيليو سيلفايني أشرفا على بناء المسجد، وصممّاه على طراز يجمع بين المملوكي والأوروبي، فكان يشبه المباني في أوروبا في ذلك الوقت.
ويضيف: "فور سماع الزائرين لهذه المعلومات، قد تمتم بعض الأصوات بأن المهندس النمساوي ومساعده الإيطالي هما من ضما الصلبان إلى عمارة المسجد بخبث ومكر، وفي غفلة من المصريين. ويذهب البعض إلى اتهام الخديوي اسماعيل بالتواطؤ معهما، لأنه كان يحب الغرب ويحلم أن تكون مصر قطعة من أوروبا. وليس مستبعداً أن يكون قد وافقهما على رؤيتهما في وضع الصلبان، متناسين، أي الزائرين، أن المسجد تم بناؤه فعلياً في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني.
ويقول جمال الهواري مدير منطقة آثار الخليسفة: "المثير أكثر للدهشة هو قبر جنانيار هانم زوجة الخديوي اسماعيل، الذي يعلوه صليب وتحته آيات قرآنية، ما يدعو إلى التساؤل ما إذا كانت قد أسلمت قبل موتها أو ماتت مسيحية، وهو تساؤل لم يُقابل إلى اليوم بإجابة قاطعة من المؤرخين".
أحد الزائرين، يدعى عصام عباس، قال إن وجود صليب جنباً إلى جنب مع الآيات القرآنية لا ينبغي أن يُنظر إليه بحساسية دينية، فربما كان هذا العصر الذي بني فيه المسجد يتسم بالتسامح الديني، وربما كانت صاحبة القبر أوصت قبل وفاتها بوضع صليب على قبرها.
ضريح جنانيار ليس الوحيد الذي يضمه مسجد الرفاعي. إذ في الجانب الشمالي الذي شُرعت فيه 6 أبواب، منها 4 توصل إلى المدافن، و2 يوصلان إلى رحبتين بين تلك المدافن. في الحجرة الشمالية الشرقية يوجد 4 قبور لأبناءالخديوي إسماعيل هم علي جمال الدين والسيدة توحيدة والسيدة زينب وابراهيم حلمي. وتعلو هذه الحجرة قبة حُليت مقرنصاتها بالألوان، وعلى يسارها من الجهة الغربية إحدى الرحبتين، التي توصل إلى القبة الثانية التي تضم قبرين، الأول للخديوي اسماعيل الذي توفي عام 1895، والثاني للسيدة خوشيار هانم، التي توفيت عام 1885.
وتضم الرحبة الثانية قبور زوجات الخديوي إسماعيل إذ يوجد قبر "شهرت فزا هانم" وقبر "جشم رفت هانم"، وهما تركيتان، بجانب قبر جنانيار هانم، شقيقة ديلسبس.
وفي حجرة مجاورة، يوجد قبران أحدهما للسلطان حسين كامل ابن الخديوي اسماعيل والآخر لزوجته السيدة ملك. وفي الجزء الآخر من المقابر الملكية في الواجهة الغربية، يوجد قبر الملك فؤاد الأول، وقبر آخر لوالدته الأميرة فريال وثالث للملك فاروق، وهو آخر الملوك الذين تولوا حكم مصر، وتوفي في إيطاليا عام 1965، ونُقل رفاته إلى مصر ليدفن جانب أسرته.
ويضم المسجد أيضاً قبر شاه إيران محمد رضا بهلوي، الذي جاء إلى مصر عقب اندلاع الثورة الإيرانية عام 1977، وتوفي عام 1980، ودفن في هذا المكان الذي خُصص له، استناداً إلى علاقة النسب والمصاهرة بينه وبين الملك فاروق، إذ إن الشاه كان متزوجاً الأميرة فوزية شقيقة الملك.
كما يضم المسجد ضريحي الأميرة فادية، الابنة الصغرى للملك فاروق، التي دفنت فيه في يناير 2003، وشقيقتها الأميرة فريال التي توفيت في نوفمبر 2009، ودفنت في هذا المكان بناءً على طلب أسرتها لتكون بجوار أبيها.
وفي زاوية صغيرة أمام المدخل الرئيسي للمسجد، يوجد ضريحان للشيخين علي أبي شباك ويحيى الأنصاري، وهما من شيوخ الطريقة الرفاعية.