استقلال واستغلال؛ مصدران مشتقان لفعلين سداسيين، يتحدان في الصياغة ويختلفان في المعنى الإصطلاحي..فنقول: استقل يستقل، استقلالا فهو مستقِلّ ،(مُستقَلٌّ )؛ وللثاني، نقول: استغل يستغل، استغلالا فهو ّ مستغِلّ،(مُستغَلٌّ ).
ويقصد بالأول في العرف السياسي حصول دولة ما على سيادتها الداخلية والخارجية؛ بعد اكتمال أركانها الثلاثة(الشعب-الإقليم-السلطة السياسية)؛ وذلك بعد منحها كامل السلطة والسلطان في تدبير مجالها من لدن القوى الإمبريالية التي كانت تُخضعها للإستعمار والإستغلال..
أما المصطلح الثاني"الإستغلال"؛ فيفيد معنى الإنتفاع بطرق غير مشروعة أو بأساليب لا أخلاقية...وهذا بالفعل ما ينطبق على استخدام ضعف السكان وهشاشتهم في إلحاق أشد مستويات الإستغلال وطأة وأكثرها فتكا بهم...
لقد احتفلت بلادنا خلال الأيام المنصرمة بذكرى مرور 56 سنة من الحصول على الإستقلال؛ والمؤرخ له بالثامن والعشرين من نوفمبر سنة 1960، بعد مسار حافل من المقاومة المسلحة؛ خاض الأجداد غمارها مع بساطة في العُدة والعتاد مقارنة بما يملكه الغزاة من قوة ضاربة؛ أسلحة وعتادا...ولكن إيمان تلك الثلة المؤمنة بمبادئها المدافعة عن دينها وأرضها..أدى في النهاية إلى دحر المستعمر.. ولئن كان الهدف من السيطرة على المجال الموريتاني بالنسبة لفرنسا هو ربط مستعمراتها في غرب إفريقيا بمستعمراتها في الشمال الإفريقي فإن ذلك لم يمنعها من نهب خيرات البلاد...وقد ظهر ذلك الغرض جليا من خلال إنشاء شركات الصيد في نواذيبو...رغم انعدام المياه الصالحة للشرب مما أدى إلى جلب الماء من جزر كناري الإسبانية...وكذا تأسيس شركة ميفرما لنهب خامات الحديد في الشمال... إضافة إلى نهب بعض المنتجات الرستاقية التي أضحت المواد الأولية المفضلة والمساهمة في ازدهار الثورة الصناعية في الغرب...وخير مثال على ذلك مادة "الصمغ العربي"؛ التي تحدثنا الوثائق التاريخية عن الحروب التي دارت رحاها على الشواطئ الموريتانية للحصول عليها بين القوى الغربية..ومن ذلك ما حصل بين فرنسا وهولندا من جهة وبين فرنسا وإنجلترا من جهة أخرى؛ فيما عرف بحرب "السنوات السبع".
ورغم حجم الإستغلال الذي تعرضت له البلاد فإن غدا أفضل كان ينتظره الجميع مع قيام الدولة ...تختفي فيه مظاهر الإستغلال...وترسى فيه دعائم الإستقلال..بيد أن هذا الأخير نغصه نوع آخر من الإستغلال لا يقل خطرا على الدولة الناشئة وكينونتها من سابقه...لكنه مورس ويمارس بأيادي من بني الجلدة؛ مثل أصحابها دور الوكيل المؤتمن لمصالح المستعمر فنهبوا بذلك خيرات البلاد وإن بشكل غير مباشر عبر الاتفاقيات والعقود التجارية والشراكة الإقتصادية؛ التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله الخراب...
ولقد رافقت عقود الإستقلال الفارطة هذه أبشع أنواع الإستغلال ...تلك التي تُمتهن فيها كرامة الوطن والمواطن..اللذين أضحيا أداة لإثراء ثلة من المتشبثين بالسلطة ...يتصالحون على تقسيم الكعكة تارة ...وتارة يتصارعون عليها..وفي النهاية الضحية؛ هو هذا الوطن المسكين وساكنته المسالمة...
فأنت في هذا المقام لا تحتاج إلى أرقام ولا إلى دراسة علمية دقيقة تعضد رأيك..بل لا تحتاج إلى ملاحظة باحث فطن وإنما بنظرة بسيطة على العالم من حولك يمكن أن تعي هول وحجم الإستغلال الذي تعرض له هذا الوطن ولا زال يتعرض له...
بربك عزيزي القارئ؛ كيف لك أن تتصور دولة بتعداد سكان لا يصل عتبة الأربعة ملايين نسمة...ومع ذلك يرزح معظمهم تحت خط الفقر بل إلى مستويات الفقر المدقع...مع هشاشة في البنيات التحتية والفوقية....وما العاصمة إلا مثالا حيا على ذلك...ومع هذا البلاد تتمتع بخيرات وافرة؛ ثروات باطنية هائلة وشواطئ بحرية من أغنى شواطئ العالم ....ومن المعادن ما فاض عن حاجة المستعمر نهبا وتخريبا...
إن الصفقات الإستغلالية التي توقع بإسم الشعب مع الشركات الأجنبية لخير برهان على النهب المستمر الذي تتعرض له خيرات هذا البلد...مثال ذلك الشركة الكندية"تازيازت"؛ والتي تعتبر من بين أشرس أدوات الإستغلال هذه...إذ تتعدى على حقوقنا إلى النيل من حقوق أجيالنا القادمة فلو كان هناك عقلنة في تدبير المجال ومراعاة بعد الإستدامة في التنمية لتم إلغاء الترخيص لعملها ...ولترك الأمر للأجيال القادمة حتى تكون على المستويات العلمية والتقنية لاستخراج تلك الثروة المدفونة التي أخشى ما يخشى عليها منه هي تلك الأيادي الأجنبية الآثمة المسلطة عليها نهبا وتخريبا مع الأضرار البيئية على المجال الحيوي...
وليس تازيازت؛ فحسب وإنما غيرها كثير من الشركات الأجنبية وتلك الوطنية؛ التي تمثل الدومين الخاص...والذي لا ينعكس ريعها على مستوى عيش الناس وظروفهم الاجتماعية والإقتصادية الصعبة....
إن ذكرى الاستقلال حدث فارق في تاريخ الشعوب والأمم...فيه تشد الهمم ...فيه يحيى الضمير الوطني ويتجدد العقد الإجتماعي بين أبناء الوطن...فيه نتذكر أجدادنا الذين ضحوا من أجل هذا الوطن ...فقدموا أنفسهم رخيصة لننعم نحن بالاستقلال والأمن والرخاء....وقد كان لهم ما أرادوا فحصل الإستقلال لكن متى ينتهي الإستغلال!!!؟
الباحث، أحمد جدو ولد محمد عمو