أنهيت قراءة مذكرات رجل الأعمال والسياسي بمب ولد سيدى بادى" مسيرة بين أشواك السياسة والاقتصاد"، ولا أخفيكم سرا أن هذه المذكرات قد شدتني إليها شدا، فهي مثيرة من أولها إلى آخرها، حيث كانت حياة الرجل كلها أشواك، فلم يكن الاقتصاد والسياسة كل ما فيها من أشواك، بل كان للنشأة أشواكها هي الأخرى.
لقد كانت مذكرات بمب ولد سيدى بادى، عصارة لتجارب اختلطت فيها قوة الإرادة والنجاح بالصدق والوفاء، إنها مسيرة طويلة أنصح شبابنا الذين يتوقون لولوج معترك الحياة أن يطالعوها، فلم يقف شظف العيش وموت الإخوة وإشرافه هو نفسه على الموت من فت عزيمته، فدخل المعترك وهو ابن العاشرة من عمره، حيث زاوج بين التجارة والدراسة، ليواصل في أعماله ويخترق حدود دولته، ويدخل عالم الأعمال من بابه الواسع، فأصبح رئيسا للناقلين الموريتانيين ومن أكبر رجال الأعمال الذين تعتمد عليهم الدولة في أشغالها، فأشرف على بناء أهم المنشآت الوطنية.
لم يقف طموح الرجل عند حد تحصيل الثروة، فتحصيل المال بالنسبة له وسيلة وليس غاية بحد ذاته، لقد سخر أمواله من أجل المساهمة في بناء وطن في بداية التشكل ولم تتحدد معالمه بعد، وطن تتقاذفه الأطماع الخارجية والتوق لاستقلال يفتقد الأرضية اللازمة، ومن داخل تلك المعادلة الصعبة عمل بمب على رسم طريقه، فلم تمنعه إكراهات رأس المال الذي هو جبان من إعلان رؤيته واتخاذ الموقف الذي يراه مناسبا بغض النظر عن العواقب، فكان من الشباب الذين دافعو عن استقلال موريتانيا عن فرنسا، وأسس مع بوياكي ولد عابدين وأحمد بابه مسكه وغيرهم حزب النهضة، وشارك معهم في الاندماج مع حزب الشعب، وعارض الرئيس المرحوم المختار ولد داداه، ولم تمنعه تلك المعارضة من الإشادة بموقفه ونظافة يده ورفاقة اتجاه المال العام .
محطات بارزة
استوقفتني في تلك المذكرات رغم كثرة ما فيها من محطات، إقدام الرجل بعدما أخبره المرحوم العقيد فياه بعدم امتلاك الجيش الموريتاني لوسائل نقل لمعداته في حرب الصحراء بمساعدة الجيش ب15 شاحنة مع قيمة 800 الف أوقية في تلك الفترة من البنزين، طالبا منه أن يكون الأمر سرا، ومن هنا يذوب منطق المحاباة والتزلف وتبرز الوطنية بكل تجلياتها.
لا يخفى بمب الفاتورة التي دفعها في سبيل التعبير عن مواقفه، وما عاناه من متزلفي الأنظمة المتعاقبة على حكم البلد، غير أنه ظل راضيا عن ذلك في سبيل ترسيخ قيم مثالية تعتبر الأساس لأية تنمية وترسيخ للديمقراطية.
كان بإمكان الرجل أن يبقى رجل أعمال يدارى الأنظمة في تعاقبها، كحال الغالبية العظمي، لكن إيمانه بضرورة الصدق والوفاء ظلا نبراسا موجها له في رسم مستقبله، داخل بلده مستعدا لدفع الفاتورة، فألف السجون طيلة فترة ولد هيداله وتعرضت أعماله للخسارة، لكن ذلك لم يمنعه من الكر والفر، والمواجهة في بعض الأحيان إلى أن رحل نظام هيداله.
ليواصل نفس المسار مع نظام معاوية الذي انتزع ما لديه من مكتسبات ، وقضى على شراكاته الخارجية وشركاته داخل الوطن، غير أن ذلك لم يضعف إرادته، بل ظل يصارع النظام ورفض أن ينصاع له عندما دعاه العقيد اعل ولد محمد فال مدير امن ولد الطائع بداية التحول الديمقراطي للعشاء معهم ، وإعلان دعمه للنظام مقابل منحه امتيازات وجعله رئيسا للحزب الحاكم الذي يعملون على تأسيسه.
هدد مدير الأمن بمب بعواقب موقفه، فأجابه بأنه يقدر العواقب وأقفل عليه باب مكتبه وراح لسبيله، وبدأ في إعداد العدة لمجابهة أخرى، ظلت مستمرة إلى أن رحل ولد الطائع .
جاء نظام آخر جديد سانده ولد سيدى بادى وترأس فيه كتلة المستقلين، التي انسحب من رئاستها بعدما طالبته جهات نافذة بعقد مؤتمر صحفي لمهاجمة المعارضة، فرفض باعتبار أنه قادم منها ولديه أخلاق تمنعه من ذلك.
وأخيرا فإنني أنصح بقراءة هذه المذكرات التي لم تكن سردا لحياة خاصة لرجل كانت له بصماته على مسار نشأة الدولة الموريتانية، بقدرما كانت خلاصة لتأصيل قيم وأخلاق، كادت تختفي في قاموسنا السياسي والاقتصادي الذي طغى عليه وصبغه التملق والتزلف، وغابت فيه المبادئ والتضحيات.
واختم بفقرة من خاتمة تلك المذكرات، حيث يسطر صاحبها :"إذا كان من خلاصة لتجربتي في الشأن العام فأقول إنها كانت إبحارا بين أمواج السياسة العاتية وسيرا على طريق تجاري غير معبد، وإنني إذ أعيد النظر كرة أو كرتين إلي هذه المسيرة، أستشعر عظمة النعم التي غمرني بها عطاء الله تعالي بما من علي من عمر وصحة ومال ومن كرامة ومن قدرة على أن أقول الحق، ومن أعظم المنن- وكل مننه جل عظيمة- أنني نظيف اليد من المال العام، نظيف اللسان من التملق أو التزلف لأي من الأشخاص أو الأنظمة الذين أداروا كفة الحكم في هذا البلد"
محمد عالي العبادي