لقد تم تخليد الذكرى الثامنة و الخمسين لعيد استقلالنا الوطني بما تستحق من تمجيد و اعتزاز يليق بهذه المناسبة العزيزة و التي تذكر الأجيال الحالية بما قدمه الأسلاف من أجل حرية و استقلال وطننا الغالي، الجمهورية الإسلامية الموريتانية. و لا شك أن هذه الذكرى مرت هذه السنة و الموريتانيون أكثر تصالحا مع مختلف محطات تاريخهم المشترك، سواء تعلق الأمر بمواجهة مختلف القوى الاستعمارية بالمقاومة المسلحة أم عبر المقاطعة الثقافية أو بالنضال السياسي و الفكري أو عبر بناء الدولة الوطنية على أسس صلبة بفضل جهود أطرها في مختلف القطاعات، مما مكنها من الصمود و الاستمرارية، رغم التحديات الجمة.
و رغم ما أشرنا إليه آنفا من انحسار ملحوظ للجدل بخصوص بعض محطات تاريخنا، بفضل الوعي العلمي المتزايد و الاطلاع عن كثب على ما تم من دراسات و أبحاث و أيضا بفضل متابعة المحاضرات و النقاشات التي تحاول نفض الغبار عن بعض وقائع هذا التاريخ، فإن البعض لم يتمكن بعد من فهم حقيقة أن ربط "تاريخ" الخصوصيات المحلية و تناقضاتها الداخلية، سواء كانت قبائل أو أعراق أو شرائح اجتماعية تقليدية، بالتاريخ الوطني لا يمكن أن يتم إلا عبر غربلة دقيقة للتاريخ الأول، تضع جانبا ما لا يتلاءم مع خصوصية الدولة، باعتبارها تمثل المشتركات و المصلحة العامة لكافة مكوناتها.
فبخصوص الاستعمار الأوروبي، لا زلنا بحاجة إلى مزيد الوعي بأهمية الوجود البرتغالي الذي دام قرابة قرنين من الزمن و تسبب في أضرار بالغة بساكنة البلد كان من نتائجه السلبية القضاء شبه الكامل على حضارة بحرية كانت قائمة على واجهتنا الأطلسية. كما أن البعض لا يزال يقفز على قرون من المواجهة مع الهولنديين و البروسيين و الإنجليز و الفرنسيين على سواحلنا و في منطقة نهر السنغال. و حتى الحلقة الأخيرة من الاستعمار الأوروبي، أي الاستعمار الفرنسي، لا يزال الكثير من الباحثين و المهتمين بالتاريخ الموريتاني لا يولون حتى الآن كبير عناية لما جرى من حروب طاحنة بين الإمارات المصاقبة للنهر و بين الفرنسيين، و بالأخص حرب منتصف القرن التاسع عشر الضروس. ثم إنه في المحطة الأخيرة من هذا الصراع، أي مشروع الاحتلال الفعلي تصورا و تنفيذا، يتم التركيز على تاريخ متأخر هو 1902، دون أن يذكر ما تم قبل ذلك بأزيد من عقد من الزمن في أجزاء أخرى من وطننا الغالي.
و على الرغم مما قيم به حتى الآن في سبيل الكشف عن عهود الاستعمار الأوربي و مواجهته من قبل ساكنة بلدنا، فإنه لا يزال يتعين تكثيف الأبحاث الموضوعية لتسليط الضوء على أحداث لا تزال المعلومات بخصوصها شحيحة من أجل تقصي أخبارها من جهة، و من جهة أخرى إنصاف العديد من الشخصيات و القوى التي لا تزال مطمورة و التي لعبت أدوارا محورية في هذا الصراع، سواء تلك التي تبنت خيار الدفع بالقوة أم تلك التي تبنت رؤى و استراتيجيات أخرى، و ذلك في جميع مناطق الوطن.
في نفس السياق، يثير البعض من حين لآخر تسمية "موريتانيا" معتبرا ذلك بمثابة طمس للتسميات التي كانت تعرف بها البلاد من قبل. و هنا لسنا بصدد الدفاع عن تسمية أصبح المجتمع الدولي يعرف بها هذا البلد، بقدر ما نريد أن نوضح أن العديد من بلدان العالم تحمل اليوم التسمية التي منحها إياها المستعمر. و لا تمثل الدول العربية و الإفريقية استثناء لهذه القاعدة، فدول مثل ليبيا (Libye ) و سوريا ( Syrie ) و نيجيريا (Nigeria) تحمل اليوم أسماء لم تكن تعرف بها محليا قبل فترة الاستعمار الأوروبي، على الأقل في أغلب أدبيات الحضارة العربية الإسلامية، لكنها أسماء أتت من تسميات يونانية أو رومانية لساكنة هذه البلدان أو لبعض الحضارات و الأقوام التي عاشت فيها في الأزمنة الغابرة، كما هو الحال بالنسبة لليبيا و سوريا، أو من تسمية جديدة تبنتها الإدارة الاستعمارية و ترتبط باسم معلم طبيعي محلي أو قريب، كما هو الحال بالنسبة لنيجيريا (نهر النيجر). و بخصوص تسميتنا ـ موريتانيا ـ فهي أكثر تعقيدا مما قد يتبادر للذهن. فمن ناحية، هي صدى لدولة بربرية (أمازيغية) مستقلة قامت في المغرب الأوسط (الجزائر الحالية) و في المغرب الأقصى (المغرب الحالي) في نهاية القرن الثالث قبل الميلادي و أول ملوكها هو"باغا"، كما أن من ملوكها الأسطوريين "أطلس".
في سنة 33 قبل الميلاد، أصبحت هذه الدولة شبه تابعة لروما و في سنة 40 ميلادية أصبحت إقليما رومانيا تم تقسيمه إلى إقليمين يفصل بينهما نهر الملوية، هما موريتانيا الطنجية (Mauretanie tingitane) ، نسبة إلى طنجة، و الأخرى في الجزائر، موريتانيا القيصرية Mauretanie Césarienne.
عند ما قام كوبولاني بمهمته لدى البيظان المحاذين لإقليم السودان الفرنسي في شهري يناير و فبراير 1899 و اتضحت له معالم الدولة التي يطمح لتأسيسها في عموم أرض البيظان، وفق ما ورد في تقريره النهائي عن هذه المهمة، المرفوع إلى حاكم السودان الفرنسي الجنرال دي تراتنيان و إلى وزير المستعمرات في منتصف سنة 1899، رسم أول خريطة لأرض البيظان و سمى هذا الإقليم موريتانيا الغربية Mauritanie Occidentale. تعني هذه التسمية من وجهة نظر كزافييه كوبولاني في المقام الأول أرض البيظان
pays maure le الذين أطلق عليهم الأوربيون بشكل عام و الفرنسيون بشكل خاص اسم les Maures. من ناحية أخرى، فإنه، و بحسب العديد من الباحثين، و بالأخص جنيفييف دزيري ـ فيلمين Désiré-Vuillemin, Geneviève في كتابها الموسوم:
Histoire de la Mauritanie : des origines à l’indépendance, Paris, Editions Karthala, 1997, p.67.
فإن تسمية البيظان Maures هي من جذر سامي (فينيقي) و هي في الأصل: Mahourim، أي رجال الغرب، و هي التي أعطت تسميات Marusiens و Maures. ثم إن اليونان استخدموا هذه التسمية و ورثها عنهم الرومان، فهي من التسميات النادرة في شمال إفريقيا التي احتفظت بأصلها السامي، ربما بسبب مجاورة هذه الدولة للإمبراطورية الفينيقية في الغرب و التي كانت عاصمتها قرطاج في تونس الحالية و تأثير هذه الأخيرة الثقافي و العلمي على شمال إفريقيا، و بالأخص المجال الذي يطلق يعرف في الوقت الراهن بالمغرب العربي. بالتالي فإن هذه التسمية في الأصل ليست من أصل روماني أو يوناني، و إنما من أصل فينيقي كنعاني، و منها اشْتُقَّ اسم سكان موريتانيا Maures، و هذه التسمية أطلقها أيضا الأوربيون على المسلمين بشكل عام و على سكان شمال غرب إفريقيا بشكل خاص، ثم أصبحت شيئا فشيئا خاصة بساكنة بلدنا منذ الغزو البرتغالي لشواطئنا ابتداء من 1441 و حتى الاستعمار الفرنسي في مختلف مراحله. لقد بسطنا نسبيا في هذه النقطة، رغم أن المقام لا يتسع لذلك، آملين أن يتم رفع اللبس الحاصل لدى البعض بخصوصها.
و دائما في إطار ما يراه البعض موقفا سلبيا من التاريخ من جانب الدولة الموريتانية، و خصوصا في بداية نشأتها، فيما يتعلق ببعض الإجراءات التي اتخذتها، من قبيل استبدال التسميات التقليدية للمناطق (الولايات) بأرقام، فإن استيعاب ذلك يتطلب فهم السياق الذي اتخذ فيه هذا الإجراء. لقد كان واردا أن ينظر إلى هذا القرار على أنه غير صائب لو بقيت بعض المناطق تحمل اسمها التقليدي في حين تمنح أرقام لأخرى، لكن الذي وقع هو أن هذا القرار انسحب على جميع ولايات الوطن و لم يتم استثناء أي منطقة منه. و بالتأكيد فإن دواعيه كانت بالدرجة الأولى إحداث قطيعة بين تسميات كانت تحمل مضمونا سياسيا (إمارات) أو نفوذا قبليا، كان لزاما على الدولة الوطنية الجديدة أن تحد منه، و لو إلى حين. قد يكون أيضا من أسباب هذا القرار، الذي تم تقبله دون صعوبة و لم تثر بخصوصه، بحسب علمنا، أي ضجة أن بعض المناطق التقليدية قد تم تقسيمها إلى عدة ولايات. فحدود الترارزة التاريخية كإمارة مثلا كانت تضم ولاية الترارزة الحالية و أغلب مناطق إنشيري و داخلت نواذيبو، كما أن سلطة إمارة آدرار كانت تمتد إلى تيرس زمور الحالية و ربما أبعد من ذلك، و نفس الشيء بالنسبة للبراكنة و تكانت و و لعصابة و الحوضين و غورغول و غيدي ماغا. فلم تكن الحدود التقليدية لهذه المناطق مطابقة تماما للتقطيع الإداري للجهات أو المناطق الجديدة التي تم إقرارها، و هو ما حدا بالسلطات العمومية في حكومة الاستقلال إلى إحداث تقطيعات، تسمح من ناحية بإدارة فعالة لهذه المناطق، و من ناحية أخرى تمكن من إحداث تسميات جديدة تجعل الناس أكثر استعدادا للتعلق بالدولة الحديثة و نسيان ماض كان و إلى عهد قريب يتسم بالانقسام و التشرذم.
أما بخصوص من يرى أن إقامة عاصمة جديدة في موقع نواكشوط الحالي، كان خطأ و أنه يتعين اختيار إحدى مدن البلد القائمة لتكون عاصمة الدولة الجديدة، فنعتقد أن هذا الموضوع قد تمت دراسته من قبل السلطات العمومية الوطنية قبل اتخاذ القرار النهائي. فقد قيل إن أسماء بعض المدن التي تقع في جنوب أو وسط البلاد غير تلك الواقعة على نهر السنغال قد طرحت كاحتمالات لأن تكون إحداها عاصمة الدولة الفتية، لكن عوامل التزود بالمياه، إضافة إلى عدم توفر منفذ بحري يمكن من التموين بشتى السلع و المواد التي ستحتاجها عاصمة دولة، مع انعدام الطرق التي تمكن من ربط العاصمة الجديدة بباقي مناطق البلد الأخرى، كلها عوامل أقنعت السلطات في تلك الفترة بضرورة استحداث عاصمة جديدة في موقع نواكشوط الحالي، رغم بعده من الكثير من مناطق البلد الأخرى. فالمشكل الرئيسي الذي كان يطرح هو التزود بالماء، و كانت هناك ثلاثة مصادر يمكن استغلالها: تحلية مياه البحر، سحب المياه من نهر السنغال و حفر مجموعة آبار في بحيرة الترارزة القريبة و مد الأنابيب منها إلى العاصمة. و يبدو أن السلطات كانت تراهن على إمكانية تحلية مياه البحر، لكن اتضح بسرعة أن هذا الخيار مكلف، أما بخصوص مد الأنابيب من النهر، المنطقة الحدودية، فبحسب بعض المصادر فإن الحكومة حينها تحفظت عليه باعتبار إمدادات المياه من منطقة النهر، كمنطقة حدودية، لا يمكن تأمين استمراريتها بشكل دائم بالنظر إلى المشاكل و التوترات مع الجيران و التي قد تصل درجة لا يمكن معها الاطمئنان بالتزود بالمياه التي تعتبر شريان الحياة لأي مدينة. للسببين السالفين، تم في النهاية تبني مد الأنابيب من منطقة إديني و كان إنجاز هذا المشروع في إطار التعاون مع جمهورية الصين الشعبية، كما هو معلوم.
و بخصوص موقف دولة الاستقلال من المقاومة ضد المستعمر الفرنسي الذي يثار من حين لآخر، لا بد من التذكير بأن عيد الاستقلال الوطني يصادف معركة لڭويشيشي بقيادة الأمير أحمد ولد الديد و التي وقعت في الثامن و العشرين نوفمبر 1908 و هي من المعارك التي تكبد الفرنسيون فيها خسائر فادحة تمثلت في مقتل الضابط ربولReboul قائد سرية الفرسان المهاجمة مع خسائر تقدر بالعشرات في صفوف جنوده و أعوانه ما بين قتيل و جريح ، و تصادف هذه الذكرى أيضا معركة الشريريك في آدرار بقيادة المجاهد محمد تقي الله ولد اعل الشيخ، الملقب وجاهة، و كانت خسائر الفرنسيين أيضا فادحة في هذه المعركة. كذلك تم طبع كتاب مدرسي في بداية أو منتصف سبعينات القرن الماضي مخصص للسنة الخامسة أو السادسة من المرحلة الابتدائية و من إنتاج المعهد التربوي الوطني يتناول مختلف معارك المقاومة الوطنية و كانت كل معركة محددة بدقة على خريطة موريتانيا و يكتب اسم مكانها في دائرة تتوسطها بندقية و في النص معلومات مفصلة نسبية عن هذه المعركة: مكان المعركة و تاريخها، ذكر قائدها و الخسائر التي ألحقها المجاهدون بالقوات الفرنسية. فمن بين القادة الذين يذكر المقرر المذكور أسماءهم: الأمير بكار ولد اسويد أحمد، الأمير أحمد ولد الديد، الأمير سيد أحمد ولد أحمد العيده، اعل ولد مياره، و غيرهم. ثم إن هذا المصنف تم تدريسه حتى سنة 1982 على الأقل. فكم نحن الآن بحاجة إلى نسخ من هذا المقرر أو على الأقل المزيد من شهادات مد دَرَّسُوهُ أو دَرَسُوهُ، سواء بالعربية أو الفرنسية، لإنصاف حكومة الاستقلال بخصوص موقفها من المقاومة ضد المستعمر الفرنسي.
و دائما بخصوص هذه النقطة، من المهم التذكير بأن أبا الأمة الموريتانية، الرئيس الراحل الأستاذ المختار ولد داداه، قد أورد في مذكراته أنه كان يدعم بقوة المقاومة الجزائرية و هو ما أغاظ عليه الجنرال ديغول و ذلك حتى قبل أن تحصل موريتانيا على استقلالها الفعلي. لقد تجسد ذلك في رفض الرئيس المختار سنة 1958 انضمام موريتانيا إلى منظمة خاصة بأقاليم الصحراء بعد عرض قدمه له الرئيس الفرنسي شارل ديغول أثناء زيارته لنواكشوط، التي كانت وقتها "عاصمة لوحات"، و هو ما حرم موريتانيا من العديد من التمويلات، تضامنا مع موقف الثورة الجزائرية المناهض لإنشاء مثل هذه المنظمة. فقصة دعم أول رئيس للبلاد للمقاومة الجزائرية، ممثلة في جبهة التحرير الوطني، قد تفسر بعض أسباب العلاقات الخاصة التي كانت تربط موريتانيا و الجزائر من بداية الستينات و حتى منتصف السبعينات و التي جعلت الرئيس المختار يمضي أحيانا فترات طويلة في الجزائر، سواء لغرض العلاج أو الاستجمام، كما تجسدت هذه الصداقة في الدعم القوي الذي قدمته الجزائر لموريتانيا عند خروجها من منطقة الفرنك الإفريقي و استحداث العملة الوطنية، الأوقية. أما ما جرى بعد ذلك من شد وجذب في العلاقات بين البلدين في الفترة المتبقية من حكم الرئيس الموريتاني الأسبق فسببه الأساسي، كما هو معلوم، يكمن في تداعيات مشكل الصحراء الغربية. ثم إنه من غير المنطقي أن تكون حكومة الاستقلال في الصف الأول من الدول التي كانت تدعم حركات التحرر في الجزائر و فلسطين و جنوب إفريقيا و في جزر الرأس الأخضر و غيينا بيساو و في بقية أنحاء العالم و لا تلتفت إلى تاريخ مقاومة أبنائها.
بيد أنه من المهم أن يفهم الجميع أن دور أي حكومة في الاهتمام بالتاريخ الوطني أو ما قد يرتبط به من قريب أو بعيد، سواء حكومة الاستقلال أو أي حكومة أخرى، يتمثل في الاهتمام العلني بهذا التاريخ و منحه الأهمية التي يستحق، كما فعل الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز منذ سنوات و كما أكد عليه في خطابه بمناسبة الذكرى الثامنة و الخمسين لعيد الاستقلال الوطني الذي عكس الروح التصالحية مع ذاكرتنا الجمعية التي ميزت هذه الذكرى، كما اشرنا إلى ذلك آنفا. لكن لكي يتحقق ذلك بطريقة علمية و مستدامة، يتعين خلق بنية مؤسسية للبحث و التأليف و النشر خاصة بهذا التاريخ ترصد لها الوسائل البشرية و المادية الضرورية، ليتم بعد ذلك إدراج خلاصات الأبحاث المنجزة و ذات البعد الوطني الجلي في المقررات الدراسية الخاصة بمختلف مراحل التعليم.
إلا أن ما هو مطلوب حقا من المسؤولين العموميين، سواء كانوا رؤساء أو رؤساء حكومات أو وزراء أو ضباطا تقلدوا مناصب هامة أو كانوا شهود عيان على أحداث وقعت لها قيمة وطنية كبرى، أو مدراء و حتى رؤساء مصالح أو أطر عاديين، هو أن يكتبوا مذكرات تخلد شهادتهم عن الفترة التي خدموا فيها و الأحداث التي كانوا شهود عيان عليها، و ذلك بأمانة و صدق و تجرد، حتى تتمكن الأجيال اللاحقة من معرفة الحقائق بخصوص ما جرى في مرفق عمومي معين أو في مؤسسة أو وزارة أو في الدولة بشكل عام.
فحسنا فعل أبو الأمة، الرئيس الراحل المختار ولد داداه عند ما دون مذكراته و التي صدرت بعد وفاته؛ كما أن الرئيس السابق المقدم محمد خونا ولد هيدالة، قد قام هو الآخر بعمل شجاع، تمثل في نشر مذكراته و هو لا يزال حيا يرزق، مكنت المهتمين بالتاريخ الوطني من الاطلاع على رؤيته عن بعض ما جرى في مختلف محطات فترة حكمه. كما أن مذكرات أخرى صدرت عن كل من الوزيرين السابقين أحمدو ولد عبد الله و يحيى ولد منكوس و عن محمد عال شريف، مدير ديوان الرئيس الأسبق المختار ولد داداه و المدير العام السابق للأمن الوطني يحي ولد عبدي، و غيرهم، قد أمدتنا بمعلومات جد هامة. كما نتطلع إلى أن يبادر الرؤساء و المسؤولون السابقون الذين لا يزالون على قيد الحياة، نرجو لهم مديد العمر، بنشر مذكراتهم، فبذلك يساهموا عمليا في كتابة تاريخ الدولة الوطنية الذي هو في المحصلة شأن الجميع.
كذلك و من أجل تعزيز مكانة موقع أم التونسي في الذاكرة الجمعية الوطنية، و خارج نطاق المعركة التي وقعت بين المقاومة و القوات الفرنسية في هذا الموقع، و التي أثير حولها بعض اللغط، فإن هذا المكان، الذي أصبح يتسمى به مطار نواكشوط الدولي، يكتسي أيضا قيمة رمزية وطنية مضافة جديرة بأن ننتبه لها و نمنحها ما تستحق.
فأم التونسي كانت نقطة تجمع القوات المسلحة الوطنية و المكان الذي انطلقت منه يوم الثامن من يونيو 1976 لصد أخطر هجوم شنته جبهة البوليزاريو على العاصمة نواكشوط. كذلك كانت هذه العملية أضخم و أهم عملية عسكرية في تاريخ الدولة الوطنية الموريتانية. تكللت هذه المعركة بنصر كبير للقوات الموريتانية، إذ تمكنت من دحر المهاجمين و كبدتهم خسائر كبيرة، كان من أهمها مقتل قائد القوة المهاجمة و زعيم الجبهة المذكورة، الولي مصطفى السيد و مساعده أوليده محمد عال لعروسي بعد مطاردة قواتهم من طرف وحدات الجيش الوطني و بقية صنوف القوات المسلحة الأخرى. كما تكبدت قواتنا بعض الخسائر، تمثلت في استشهاد و جرح بعض العسكريين، وقع أغلبها في أم التونسي مساء يوم 8 يونيو 1976، مع بعض الخسائر في المعدات .
لقد شارك في هذه المعركة التاريخية، و التي تم لها استدعاء وحدات عديدة من مختلف مناطق البلاد، جل قادة الجيش الوطني و الدرك و الحرس في تلك الفترة: العقيد فياه ولد المعيوف، المقدم أحمد سالم ولد سيدي، المقدم أحمد ولد بسيف، المقدم عبد القادر(كادير)، الرائد يال عبد الله الحسن، الرائد حينها محمد خونا ولد هيدالة، الرائد أحمدو ولد عبد الله الذي جرح في هذه المعركة، النقيب حينها جدو ولد السالك، النقيب ابوه ولد المعلوم، النقيب الحرسي بوي هارونا، الملازمون الأول محمد لمين ولد انجيان، أنه ولد اباه، الطالب مصطف ولد الشيخ، و الملازمون: عطيه ولد سيد أحمد اعل و آبو ولد ممادي (من الحرس) و باب ولد أبو مدين و سيدي ولد الريحة و لو مخايلو (من الدرك)، المساعد أول أبه ولد أعمر، المساعد الحرسي (الملازم أول فيما بعد) السيد ولد الشويخ ولد محمد السيد، إضافة إلى قائد أركان الجيش الوطني حينها، المرحوم العقيد حمود ولد الناجي الذي كان يشرف على سير المعركة، وغيرهم كثيرون من ضباط و ضباط صف و جنود القوات المسلحة الوطنية. فرحم الله من قضى منهم و أمد في عمر من لا يزالون أحياء.
( ملحوظة: أغلب الأسماء الواردة في هذه النقطة الخاصة بهجوم 8 يونيو 1976 على نواكشوط من قبل جبهة البوليزاريو و تصدي القوات المسلحة الوطنية له كان مصدرها الرئيسي كتاب محمد ولد شيخنا: اندحار جحفل، الصادر سنة 2016 عن دار قوافل للنشر، نواكشوط).
إن أي موقف من مشكل الصحراء الغربية اتخذته الدولة الموريتانية قبل الثامن من يونيو 1976 أو بعده، يجب أن لا يحجب عنا أهمية "معركة أم التونسي الثانية" و كونها جسدت لحظة تاريخية نادرة من تلاحم الجسم الوطني لصد المهاجمين، و قد حقق هذا التلاحم الأهداف المرجوة منه.
في هذا الإطار، يقع العبء الأكبر من كتابة المراحل الهامة من التاريخ السابقة على تأسيس الدولة الوطنية كاملة السيادة و اللاحقة على مرحلة الاستقلال على عاتق ذوي الاختصاص من مؤرخين و باحثين و مهتمين بالتاريخ الوطني. و مع أن هذا الموضوع من حيث المبدأ مفتوح لمساهمة الجميع ممن قد يقومون بأعمال قد تقدم البحث العلمي في هذا المجال أو تساهم فيه، فإن تناوله من قبل أناس لا يتوفرون على الأهلية العلمية أو الموضوعية اللازمة لذلك أو لأهداف سياسوية محضة، قد تكون له عواقب سلبية على الجميع و سيكون ذلك تشويشا غير مقبول و غير مستساغ على الذاكرة الجمعية لشعب ظل يعاني و إلى عهد قريب من ثلاثي مرعب: الأطماع الأجنبية، التشرذم الداخلي و قساوة الطبيعة.
إن من حق الأجيال الحالية و المستقبلية أن تطلع على ما تم من تضحيات بشتى الطرق على درب إقامة الدولة الوطنية المستقلة، بما في ذلك مقاومة الاستعمار الأجنبي و كذا تضحيات بناة الدولة الموريتانية الأول و جهود البناء الأخرى التي قيم بها في مختلق المراحل اللاحقة. كما يشمل ذلك أيضا تاريخ تضحيات قواتنا المسحلة و قوات أمننا و هي تقوم بالمهام الموكلة إليها في إطار الدفاع عن الحوزة الترابية، أو في إطار تنفيذ تعليمات النظام الشرعي القائم للقيام بمهام تهدئة أو حفظ سلام في بلدان أجنبية، أو للقيام بأي مهمة أخرى تقتضيها المصلحة العليا للوطن الموريتاني.
كذلك يجب أن لا يغيب عنا أن بناء الدول و تقدمها يتم بالأساس بفضل العلم و الثقافة و الفكر و الفن و الرياضة، و غيرها من المجالات، و هو ما يستوجب منا أن نجعل التعليم أولوية الأوليات و أن نكرم العلماء و المفكرين و الشعراء و المثقفين و الخبراء و المهندسين و الفنانين و الرياضين و نعتبرهم كنز البلد الثمين و سفراءه الحقيقيين.
أخيرا، فإن الوفاء للتضحيات المذكورة آنفا يستوجب منا جميعا العمل على المزيد من تعزيز مؤسسات الدولة و إقرار القوانين التي تخدم المصلحة العامة و تطبيقها بإنصاف و الابتعاد عن سوء التسيير و الفساد و الإقصاء و نهب المال العام و البحث عن كل ما يخدم وحدة البلد و استقراره و مصالحته مع ماضيه و حاضره.
الدكتور أحمد ولد المصطف