كان يوما صيفيا حارا من عام الفين وخمسة ، قررت فيه ان افك قيود الانتظار وحملت حقيبة مدرسية ، وقلما هولنديا ازرق ، ثم انطلقت الى ذلك المبنى العتيق المصمم تصميما تقليديا المكون من طابقين في مقاطعة لكصر ، كانت الافتة الخشبية المعلقة على واجهة المبنى تنبئ عن طبيعته :الوكالة الموريتانية للانباء"
صرح اعلامي حكومي يقع في منطقة تجارية اغلب بضاعتها.. من قطع غيار السيارات،قطع تترك على التربة الوانا رمادية داكنة ، وتنفث عوادم سياراتها بخارا اسود في الافق .. لم يكن افقي قد استبد به السواد ، فانا شاب غض البنان ، مفعم بالحماس ، نهم في قراءة الكتب والصحف والمجلات مدمن على سماع الراديو ، اسافر بعيدا بحثا عن نسخة من مطبوعة صدرت حديثا لاقرا منها ثم اعود بما علق بالذاكرة منها
، عند بوابة الوكالة استوقفني حرسي يلبس نعلا ابلاستيكيا مخلل الاصابع ..كتبت على ظهره عبارة "صنع في السينغال" ، زجر الحرسي قطة منزلية كانت تلعب بين قدميه فاومات بصوت خافت والتفت في زاوية غرفة الحراسة، قلت للحرسي لدي موعد مع مدير الاخبار ، اخذ السماعة وحرك لوحة الارقام حركة دائرة مرتين ثم تحدث الى المدير في مكتبه ، كان العمال يخرجون في نهاية الدوام ، وكنت ادخل اول بوابة لي في مجال الصحافة والإعلام
بعض السلالم تلبس الرخام وتلمع مثل ماء الغدير ، فتصعدها سريعا على بلاط فخم ، وبعضها ، مزحلق ملئ بالنتوءات والمطبات، فضلت ان اركب السلم الثاني ، فلا نجاح يكتب لك على بياض ، وحتى اذا حصل ذلك فسوق ياتي يوم ، تتعرى فيه السلالم ، بعد ان تتساقط ، كتل الرخام وتتصدع المراة
اللقاء كان ايجابيا ، فقد حصلت على تعهد بالتدريب وربما التوظيف، كنت انتظر اليوم الذي تصدر فيه جريدة الشعب وقد تضمنت تحقيقا لي ، بعد اسابيع تحقق ذلك وكان عبارة عن تحقيق حول الخردة والسيارات في لكصر ، مضت اشهر وانا مزهو بذلك الانجاز ، لقد كنت اتلقى الملاحظات والتوجيهات من طاقم متمرس يمتلكون خبرة بالمجال ، من حسن حظي ان مقر الوكالة قريب من الجامعة حيث احضر رسالة التخرج في الحقوق ..
كان العمال من حولي ، يتناقلون اخبار الرواتب والاكراميات والتشجيعات اما انا فسوف انتظر اشهرا كي احصل على قروش قليلة بعد مواعيد كثيرة ، ماكان يعوض مرارة العسر حلاوة اجدها حين تنشر الجريدة موضوعا موقعا باسمي سعيد ولد حبيب .. سوف يكون هذا الاسم فيما بعد ذلك بأشهر قليلة واحدا من الاسماء التى تظهر في الصفحة الاولى لجريدة الاخبار واسعة الانتشار
تمنح حرية الاعلام فسحة اكبر للموهوبين كي يصقلوا مواهبهم بينما تفتح لك مدرسة مهنية ابوابها كي تتعلم مبادئ التحرير وكيف تخرج ما في جعبتك من طاقة لتسخره للمهنة، فاذاكنت مؤمنا بها محبا لها فسوف تحقق نجاحات تتجاوز المكاسب المادية وحين تصبر وتثابر فسوف تحقق نجاحات اكثر
الكاتب الصحفي المهوس بالمهنة قد يتعرض للاغراءات والضغوط ، وفي طرفة عين قد ينزلق ويذوب على صدر الاغراء ات قبل ان يرهن موهبته ، في اوراق او قطع نقدية ، تلجم لسانه وتقيد انامله ، فيصبح كاتبا مسجونا في دولاب فولاذي، اما حين يغض الطرف عن بريق زائل ، فانه سيواجه المطبات والحفر وكلما كافح وكابد فسوف يشعر بالرضى على نفسه التى حاربته وعزرته
في الصحافة اجد نكهة لا تقاوم ، حتى حين اتعرض لصور مختلفة من الغبن والتهميش ، وقد عملت في القطاعين الخاص والعام وفي كليهما ، كابرت وثابرت ... حلمي كان ان اكون صحفيا ومن اجل تحقيق ذلك ، اتحمل كل المتاعب: في النهاية هي مهنة المتاعب ...
الاعلام المقروء يساعدك كثيرا في التغلب على الصعوبات الاخرى في الاعلام المسموع والمرئي ، اما بالنسبة للاعلام الجديد او الصحافة الالكترونية/ فالامر يختلف قليلا وان بقي التحدي هو نفسه
المهم في كل مسارك المهني ان تتجنب التموقع او التخندق فيما تنتجه اللهم الا ماكان منه في حدود الخط التحريري للمؤسسة التى تعمل بها ، وهو تحدي اكبر اذ كيف تؤدي عملا مهنيا في محيط مدجج بالتابوهات ، ومملوء بالهواجس .. مثقل بالالتزامات ... وفي نفس الوقت تحتاج الى عمل يلبي نداء الامعاء وحاجيات اليوم التى لا تنتهي ، انها معادلة صعبة ، ولكن حبك لمهنتك وغيرتك عليها سوف يخرسان السنة الشياطين التى تهاتفك من حين لاخر ..
تعلمت ان ابيت على الطوى في سبيلك يا مهنة المتاعب ، وان اتحمل كل عذابات الميدان من اجلك ...
الصحافة التلفزيونية ، تستهويني ، فبجمل بسيطة وصور ناطقة اركب مادة تلفزيونية ، وبحس صحفي افتش بين القمامة عن قطعة تستحق قصة ، وبين موائد البسطاء استلهم مواد وانتج تقارير وبرامج.. وفي تنابز السياسيين وسجالاتهم وعنترياتهم ما يخرج منه تقرير اخباري او برنامج وثائقي وهلمجرا وفي هذ المجال عملت مع عدد من القنوات الفضائية العربية مراسلا ، ولم احد يوما عن مهينتي مهما كانت الاغراءات ، اليوم اعمل في التلفزيون الموريتاني بعد مسابقة تصدرت في نتائجها قوائم الفائزين
العمل الاذاعي ، يقحمك في مسالك ودروب ، ويحملك مسؤولية ان تكون عينا للمستمع ، وفي ذات الوقت يرفع صوتك الى البيوت والاكواخ والفيلات والقصور والى ظهور العيس في الفلاة .. عندما اصبحت الذبذبات جزء من الذات ... صرت انا رسولا الى الناس ..انقل الواقع ..
هذا انا .. ثابرت في مملكة صاحبة الجلالة ، وتقدمت لمسابقات ونلت جوائز وشهادات تكريم ، جائزة الاستقلال لحرية الصحافة التى نظمتها الهابا الفين واثني عشر لاحسن تقرير ، جائزة اسحاق ولد المختار التى نظمتها مؤسسة "اراك" الخاصة عام الفين وخمسة عشر لاحسن تحقيق تلفزيوني ، شهادة تكريم من قناة الموريتانية بعد سلسلة تقارير بمناسبة عيد الاستقلال عام الفين واربعة عشر ،
في المحصلة وانا اعبر جسورا بين الاجيال ، اجريت مئات التقارير والتحقيقات والقصص الاخبارية .. للصحافة الورقية والالكترونية والاذاعة والتلفزيون... اليوم اقدم هذه الحصيلة الى زملاء المهنة كخيار من بين ثمانية اخرين ... لنقابة الصحفيين فمن يستطيع ان يعبر عن صحافة الميدان اكثر مني ... فانتخبوني ...
سعيد ولد حبيب