يخسر الإنسان قيمه، ومنجزاته، ومحبيه معا ، في أية حرب اقتتال فكري، لم تؤسس على المحافظة على مشتركات: القيم، والمنجزات، والمحبين.
جرب قابيل وهابيل ذلك، ومن أجل ذلك أسس الله الولي الحميد، قاعدة : مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا
وكم ابتليت الحضارات البشرية ،بالحروب الفكرية التي دمرت العيش المشترك وأسسه، والمسلمون بفسيفسائهم كانوا المثل الحضاري الأوسط فيها، لامتداد جغرافية الخلافة الراشدة، والأمويين ، والعباسيين، والفاطميين،والعثمانيين، وما نشأ من حقب أعجمية أو مذهبية.، حكمت الكرة الأرضية ما ناهز عشرة قرون، لم يبق من أولائك المفكرين والمتصراعين إلا جذاذا، وأصبحوا وأتباعهم أحاديث وأيادي سبأ.
الحروب كلها كانت تبدأ بفكرة.
وتنوعت الجماعات المؤججة للصراع: من أهل الردة ، إلى الخوارج، إلى أصحاب الشوكة.
روج الأولون لادعاء النبوة و لمنع الزكاة، ورفع الخوارج شعار أحقية هذا الطرف دون سواه بالسلطة مكفرين من خالفهم ومستبيحين دماء المسلمين ، وجاء الفلاسفة وأهل الكلام بفتنة خلق القرءان ، واضطهدوا علماء الأمة، وبسبب دعوى أصحاب الرايات السوداء لنصرتهم لآل البيت، أبيدت كتائب قريش، إلا رجلا اسمه صقر قريش عبد الرحمن الداخل .
ثم هوت الأمة إلى صراعات تحكم هذا المذهب الفقهي أوذاك، أو برزت السيادة لعرق أو قوة من الأجناد وأهل المال،وانتهى بنا الحال الى مجرد الدعوة على منابرالجمعة لمن يجلس في الأستانة غلاما حدثا، أو شيخا هرما.
ضاعت الأمة ، في قتل بعضها بعضا ، بسب مشاحنات، و فتاوى ومساجلات فكرية عقيمة.
واستبعد علماء مقاصد الشريعة الذين هم عصبة النجاة، وأصبحنا تائهين بين فقهاء لايفقهون السياسة وساسة لا يستشيرون علماء الخشية.
حتى حكم الاستعمار الجديد بالنار والحديد: الأرض، والعرض، والمدرسة، والثكنة، والبرلمان، والحكومة، والقوانين، والاقتصاد، وخرائط الحدود، والثروات، والصناعات والأسواق، والإعلام ، والفكر ، والعلوم .
أصبح المستعمر لنا أسوة، هو المنتج ونحن مجرد مستهلكين ، وهو المصنع ونحن مجرد مستقبلين، إن شاء سخن وأوقد النار، وان شاء أجل الحروب والمصالحات إلى حين.
خسرنا رغم الفتوح والمنح الربانية للأسف، ثلاثة من الخلفاء الراشدين من أصل أربعة مقتولين، بسبب فتاوى وأفكار من يستعمل الدين للقتل، أويؤجر القاتل للقضاء على استقرار ونهضة.
خسرنا خيرة الصحابة في حروب الردة، وفى الحرب بين على ومعاوية رضي الله عن الجميع.
خسرنا الحسين وصحبه في كربلاء، وقتل علماء المدينة في يوم "الحرة"، وصلب عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي (1 هـ - 73 هـ) بالكعبة المشرفة بسبب فكر الحجاج بن يوسف الثقفي.، وتعلمون كيف امتحن إمام دار الهجرة، والإمام أحمد، والإمام الشافعي، ورابعهم أبو حنيفة النعمان، ضربا وسجنا وهم عدول أجمعت الأمة على عدالتهم.
ظل الإسلام عصيا على الكثير ممن يتاجرون به عبر تلك الحقب ، وعلى امتداد تلك الصراعات ، وظلت مدرسة العلماء والشهداء والصالحين نقية، ونأت عن المتصارعين من أرباب المشاريع الفكرية الموهومة التي أفلت وانتفت مفكرين وتيارات وأحكاما وأحلافا.
خسرت أوروبا في حرب المائة سنة بين قومييها في انجليترا وفرنسا، ما يفوق بكثير الحربين العالميتين الأولى1917 والثانية1945 ،اللتين قتل فيهما زهاء 70 مليون جندي مع ما حاق بأوروبا من دمار وفقر، بسبب فكر الاقتتال والصراع ونفي الآخر.
وتتذكرون أن المغول التتار في القرن13م أبادوا في
زحفهم35 مليون انسان بنظرية التفوق العرقي.
وأظهرت سبعون سنة من الحرب الباردة، والحركات السياسية المؤدلجة، يسارية وقومية ويمينية،كم من نزاع حدودي، وحروب ضائعة داخلية وخارجية ، قادتها تلك الحركات وزعماءها ، لم تقدم للأمة نموذج سنغافورة في التعليم والازدهار، ولم تأت لها بمعجزة اليابان، ولم تستثمر مواردها في غير حروب العراق المكلفة التي وصلت ديونها 40 ترليون دولار، وقس على ذلك حروب الكتاب الأخضر مع اتشاد والسودان والجزائر وتونس، وحتى مع الفلسطينيين والسعوديين والأردنيين، كم كانت محاولات بسط الفكر الأخضر مكلفة ومؤذية وتصل حد الاستهتار والسخرية.
أضاع القوميون العرب السلطة والثروة في معمعان الحروب العبثية ، وأضاع الإخوان المسلمون جهودهم في مغازلة هذه الأنظمة، ومعاداة تلك الجبهات المعلومة داخليا ،وشغلوا بصراعاتهم الداخلية الفكرية والعقدية ، وهو ما نتج عنه التشويش الحاصل مع تلك الأنظمة التي صارعتها أو احتضنتها خلال 70 سنة انقضت ،وتتحمل قياداتهم المسؤولية عن ذلك وبدأت تعترف به علنا وداخل منتدياتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
الخلاصة:
أضاع البعثيون المسيحيون والعلمانيون العراق والشام.
وأخفق الناصريون فى بناء دولة المؤسسات في مصر وليبيا واليمن
وتحول الشيوعيون من مناضلين إلى عملاء للمستعمر، وداعمين لأجندة الإلحاد والاستهزاء ،وخطابات الكراهية.
ولا يزال الإخوان يخلطون بين الفتوى وصناديق الاقتراع.، ويحاولون عبثا احتكار المشهد الديني المركب.
يجب أن نؤسس لمساجد كبرى خالدة كما فعل بناتنا الأوائل : الأمويون ، والعباسيون، والعثمانيون والمرابطون.
المال والسلطة عرضان، منحهما للمداراة، أو تقاسمهما مع هذه الحركات المؤدلجة أساليب جربتها كثير من الأنظمة فأنتجت واقعا مقيتا.
الحل فى الانحياز الواضح للعلماء ومنابرهم ومحاظرهم، وللصالحين رؤية ومنهجا ، بدل السياسيين والمؤدلجين.
الفاروق عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ،هارون الرشيد، وعمرو بن العاص،وصقر قريش عبد الرحمن الداخل، وصلاح الدين الأيوبي، ويوسف بن تاشفين جربوا بناء المدن المؤسسة علي المساجد الكبيرة والعامرة بالعلماء والصالحبن، وهذا هوديدن المدرسة الشنقيطية.
كان منهجها منهجا رساليا ، متمحضا في تعليم القرءان ومتون السنة والفقه واللغة العربية ،وألزموا حكامهم وقضاتهم ومنفقيهم بإقامة الأوقاف و صرف الحسبة لوجه الله.
ومن تخرج من هؤلاء أعطوه صنعة ومالا وسلطة، لتعليم الدين الحقيقي ونشره في سبيل الله .وكان هؤلاء قادة فتوج وأمراء جهات ،وأبدالا لمن رفع السيف علي الأمة ، ومن سلك طرق الزندقة من أرتال الخوارج و شعب البغاة
لنجدد العناق بين المئذنة والمحظرة علي طول الضفة، وفي تجمعات مدننا الملونة ،و تجمعاتنا الحضرية والناشئة.
لنجدد التجربة علي طول حدودنا وعبر المناطق التنموية الخمسة داخل موريتانيا الأعماق: (النهر، لحدادة ، الرحل، طريق الأمل أو الوسط ، المعادن والواحات) ببناء عناق المحظرة والمئذنة ، مساجد كبرى تمثل أوقافا إسلامية خالدة كما فعل بناة الحضارة:الأمويون، والعباسيون ،والعثمانيون ،والمرابطون.
السادة المؤدلجون من كل التيارات العربية والإسلامية،الأحزاب تفني ، ويبقي المشترك الخالد :العلم ، وصناعة المسجد والمحظرة (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) صدق الله العظيم.
ارفعوا أيديكم جميعا عن الإسلام دين السلام والقيم، وارضوا به مشتركا ونهجا، وكما يقول الشيخ عبد الله بن بيه فان الحل في نشر وتدريس وتطبيق فقه الصلح في الاسلام بينكم ، لبناء العلاقات الصحيحة بين المجتمع والدولة ، وبين الأمة وشركائها. والقيم كما يعرفها بن بيه: "ا لقيم إذا وجدت، وحركها العقل، فهي لغة للتخاطب، بعيدا عن الحرب والتدمير".
بقلم: محمد الشيخ ولد سيد محمد/ أستاذ وكاتب صحفي